رمز الطبيعة
كانت الطبيعة مصدر إلهام للشعراء منذ القدم، يستلهمون منها مادة التشكيل الشعري بكل أبعاده الفنية، غير أن الصوفية اتخذوا منها رمزا للتعبير عن أحوالهم، يقول الدكتور إبراهيم محمد منصور في هذا: "رمز آخر عُني به الصوفية هو رمز الطبيعة، فقد نظروا إلى المخلوقات جميعا على أنها مجلى من مجالي الحق، والجمال الإلهي، ولابد أن يكون الشجر والأنهار والورد وكل مظاهر الجمال في الطبيعة مصدرا من مصادر الإعجاب، ورمزا من رموز الصوفية الشعرية الجميلة". فالطبيعة لدى الصوفية ليست كالطبيعة التي يتصورها غيرهم من الشعراء، فهي المهرب الذي يلجؤون إليه من متاعب الدنيا، وهي حلمهم الأكبر في الآخرة، وهي بالنسبة لهم تشكل تجلي من تجليات الجمال الإلهي.
ويذهب ثروت عكاشة إلى القول في معرض حديثه عن الرمز الطبيعي في الشعر الصوفي: "أو لم ير جلال الدين الرومي أن كل ما في الحدائق من زهور ومياه وينابيع وأشجار هي تجلي الجمال الإلهي والنموذج الأمثل للجنة العليا، وتنسّم المتصوفة ففي كل وردة نفحة من عطر الجنة، وتسمّع الصوفية في حفيف الورود إلى تسبيحها لله ..."وإن من شيء إلا يسبّح بحمده"، وكان ذو النون المصري يعلم مريديه أسرار هذا التسبيح الذي تشارك ففيه الخليقة كلها قبل القديس فرنسيس الأسيزي بأربعة قرون"[1]. وقد خلّف الصوفية تراثا شعبيا غنيا بالرموز الطبيعية.
ومن هذه الرموز قول ابن الفارض:
تراه إن غاب عنّي كلّ جارحة
في كل معنى لطيف رائقٍ بهيج
في نغمة العود والنّاي الرخيم إذا
تألفا بين ألحان من الهزج
في مسارح غزلان الخمائل في
برد الأصائل والأصباح في البلج
وفي مساقط أنداء الغمام على
بساط نور من الأزهار منتسج
وفي مساحب أذيال النسيم إذا
أهدي إلي سحيرا أطيب الأرج
وفي التثامي ثغرا كأس مرتشفا
ريق المدامة في مستنزه ففرج
والمتأمل في هذه الأبيات يجد أن العشق الإلهي يمتزج مع عناصر الطبيعة الحيوانية منها والطبيعة الساكنة، "والعشق الإلهي مرتبط بجمال الذات الإلهية، ولهذا كان ارتباط العاشق والمحب الصوفي بالطبيعة هو ارتباط بجمال الحق، وقد صور ابن الفارض حبه الإلهي ممتزجا بتمجيده للطبيعة ومجالي الجمال فيها، تصويرا جميلا ففيه تمجيد لمظاهر القدرة الإلهية، وصور الجمال التي هي صورة الحق، باعتبار كل ما في الوجود إنما هو مجلى من مجالي جمال الذات المقدسة".
والطبيعة تشتمل على أنغام وألحان، وغزلان، وخمائل، ونسيم وأنداء وغمام وهي مظاهر طبيعية تعد انعكاسا لجمال الذات الإلهية المقدسة، تؤثر في نفس الشاعر وتثير فيه النشوة والرضا والسكينة والمحبة، ويشعر كأنه في حضرة الخالق عز وجل.
