برنامج التدريس



 



الفصل 01: قضايا ومصادر الأدب الصوفي:


مقدمة:

من المعلوم أن الدولة الإسلامية قد عرفت توسعا جغرافيا إبان الفتوح الإسلامية التي امتدت شرقا وغربا. وبحلول العصر العباسي امتزجت عناصر بشرية دخلت في الإسلام من الأمم المفتوحة كالفرس والهند واليونان، بعضها كان على مستوى عال من الثقافة والفلسفة والعلوم، فكان من الطبيعي أن تنقل معها أفكارها وأديانها وعقائدها؛ مما أثر على التصوف بصفة عامة، وعلى مضامين ولغة الأدب الصوفي بصفة خاصة، فانعكس ذلك جليا على جماليات الأدب الصوفي عبر انتقال جملة من القضايا والمفاهيم التي أسست لشعرية جديدة حققت قفزة نوعية في تاريخ الأدب العربي، وفتحت أمام الشعراء مجالا هاما لإغناء تجاربهم الشعرية والبوح والإفصاح عن مكنونات ذواتهم من خلال الغوص في عالم روحاني يواجهون به النزعات المادية والمظاهر الشكلية التي رسمت ملامح العصور المتأخرة.

أولا: قضايا الأدب الصوفي:

مقدمة:

إن الباحث في قضايا التصوف يجد كما كبيرا من المصادر والمراجع التي تطرقت إلى هذا الموضوع، إلى حد التفصيل في كل دقائقه وجزئياته، ذلك في ظل التراكم الكثيف للتراث المعرفي المرتبط بالتصوف والقضايا المتعلقة به والوافدة عليه مثل قضية وحدة الوجود، الحلول والاتحاد، العشق الإلهي، الحقيقة المحمدية. وفيما يلي تلخيص لهذه القضايا الوافدة على الثقافة العربية الإسلامية بصفة عامة، والأدب الصوفي بصفة خاصة.

1 وحدة الوجود:

فكرة وحدة الوجود تسربت إلى الفكر الإسلامي من فلسفات الهند والأفلاطونية المحدثة التي يأتي على رأس نظامها الفلسفي معنى الواحد الذي تفيض منه الموجودات فيضا ضروريا ابتداءً من العقل، إلى النفس الكلية، إلى المادة، ويتصل بذلك أن هذه الحقيقة تمثل الجمال المطلق، الذي يُرجع كل حسن وكل صورة من صور الجمال إليه. ولقد كان المستشرق فون كريمر يذهب إلى أن وحدة الوجود مستمدة من المصدر البوذي الهندي، وقد تمثلها الحلاج في القرن الثالث الهجري.

بينما يرى آخرون أن فكرة وحدة الوجود لم تظهر  في صورة نظرية كاملة متسقة قبل محيي الدين بن عربي المُتوفَّى سنة ٦٣٨، وإن ظهرت بعض الاتجاهات نحو هذه النظرية نجدها بين حين وآخر في أقوال الصوفية السابقين عليه، ولم يكن ابن عربي أول من أرسى دعائم مذهب كامل في وحدة الوجود وحسب، بل ظل حتى اليوم الممثل الأكبر لهذا المذهب، ولم يأت بعده ممن تكلموا في وحدة الوجود نثرًا أو شعرًا إلا كان متأثرًا به أو ناقلًا عنه، أو مرددًا لمعانيه بعبارات جديدة.

2 الحلول والاتحاد:

استمد الحلاج نظرية الحلول والاتحاد من مصدرين هوما الأثر الإسلامي، وذلك في الحديث: "إن الله خلق آدم على صورته" ولذلك عندما وصف نفسه قائلا "أنا الله، أنا الحق"، إنما يريد أن الله يتجلى فيه، وكذلك نظرية الناسوت واللاهوت اللذين يؤلفان الطبيعة الثنائية للمسيح، حيث يمثل الناسوت الروح الإنساني، واللاهوت الروح الإلهي، يقول مصرحا بهذه الثنائية:

سبحان من أظهر ناسوته

سر سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا لخلقه ظاهرا

في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه

كلحظة الحاجب بالحاجب

كما يشير من جهة أخرى إلى امتزاج واتحاد الطبيعة البشرية بالإلهية (الناسوت باللاهوت) امتزاجا تاما حيث يقول:

مُزجت روحك في روحي كما

تمزج الخمرة بالماء الزلالْ

فإذا مسك شيء مسني

فإذا أنت أنا في كل حالْ


3 العشق الإلهي:

تعددت مفاهيم المحبة عند الدارسين غير أنها لم تخرج عن الميل القلبي إلى الخالق، يقول الجُنيد: "المحبة ميل القلوب، معناه أن يميل قلبه إلى الله وإلى ما لله من غير تكلف". وجاء عند غيره أنها "الموافقة، معناه الطاعة له فيما أمر والانتهاء عما زجر والرضا بما حكم وقدر". وعليه فالمحبة تتحدد من خلال مجموعة ألفاظ متعلقة بالقلب: الميل، الموافقة، الطاعة، الرضا، الإيثار، اللذة... تقول رابعة العدوية:

أحبك حبين حب الهوى

وحبا لأنك أهل لذاك

فأما الذي هو حب الهوى

فشغلي بذكرك عمن سواك

وأما الذي أنت أهل له

فلست أرى الكون حتى أراك

فما الحمد في ذا ولا ذاك لي.

ولكن لك الحمد في ذا وذاك

تأخذ رابعة العدوية المعنى من الآية 54 من سورة المائدة ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم). الشاهد من الآية (يحبهم ويحبونه).

إن السالك في طريق الصوفية يرى في التواصل بينه وبين خالقه دينا أو عقيدة لا مناص منها لأهل التصوف، وقد ظهر العشق الإلهي في العصر العباسي بشكل لافت منذ القرن الثاني في بغداد، والتي تعد مدرسة تخرج منها العديد من الصوفية كالحلاج ورابعة العدوية. هؤلاء الذين لبسوا الصوف وعُرفوا به، كانوا في الحقيقة زُهّادا وادعين أكثر منهم متصوفة، فإدراكهم المستولي عليهم للخطيئة كانت تصحبه الرهبة من يوم القيامة وعذاب النار؛ تلك الرهبة التي ليس في طوقنا أن نتحققها، والتي صُوّرت في القرآن تصويرا حيا دفعتهم إلى أن يجدوا في الهرب من الدنيا مخلصا لهم.


4 الحقيقة المحمدية:

ترد هذه الفكرة تارة تحت اسم الحقيقة المحمدية، وتارة تحت اسم الإنسان الأول، أو الإنسان الكامل، أو النور المحمدي، وقد استلهمت الفكرة من أفكار الفيلسوف أفلوطين (توفي سنة 270 ميلادي) الذي يعتقد أن الخالق أبدع ما يسمى العقل الأول وهو كائن مستقل، هذا العقل يفيض فيحدث صورة منه وهي النفس الكلية وهذه الأخيرة تفيض فتصدر عنها نفوس الكواكب، البشر، الأجسام...

انتقلت هذه الأفكار إلى الشيعة الباطنية والإسماعيلية والإثناعشرية ثم أخذها غلاة المتصوفة، وقد جعلوا النبي محمد عليه الصلاة والسلام في مقام العقل الأول عند أفلوطين وقالوا أنه أول خلق الله ومن نوره خلق الكون. يقول الإمام الشوكاني: "أدخل الحلاج فكرة الحلول، وفكرة النور المحمدي الأزلي وهو كذلك الذي فتح باب وحدة الوجود لمن بعده من غلاة الصوفية كابن عربي فأشغلهم بها".

ثانيا: مصادر الأدب الصوفي:

من أهم مصادر الأدب الصوفي ما يلي:

المصدر اليهودي والنصراني:

تعدد الديانة اليهودية والنصرانية من بين المصادر التي أثرت في التصوف الإسلامي، يقول الشهرستاني عن تأثر المسلمين باليهود إنهم: "وجدوا التوراة ملئت بالمتشابهات مثل الصورة والمشافهة والتكلم جهرا والنزول من طور سيناء انتقالا والاستواء على العرش استقرارا وجواز الرؤية فوقا"؛ وقد كان اليهود على دراية بهذه المسائل قبل المسلمين نظرا لأنهم أهل كتاب مقدس، أنزل فيه أشياء وقصص وشرائع وأخبار عن الدنيا والآخرة، فكان من الطبيعي أن ينشأ لديهم علم التصوف. وفي تأثر أعلام الصوفية المسلمون بالتصوف اليهودي، يقول الدكتور بشير جلطي: "كما أن قصة موسى وخلع النعلين، والنار والمقدسة والشجرة المقدسة وتكليم الله ومقام لن تراني، وقصة موسى مع الخضر وأسرار نظرية العلم اللدني، كل هذا كان له امتداد وأثر على ثقافة التصوف التي قاد لواءها كل من الحلاج وابن عربي والبسطامي".


المصدر الهندي:

اتصل المسلمون بالبلاد الهندية في العصر العباسي اتصالا كبيرا نتج عنه تبادل فكري وعقائدي، ويؤكد هذا التأثر المستشرق اجناس جولد تسيهر بقوله: "عند إلقاء نظرة عامة على تاريخ التصوف لا يمكن أن نتجاهل هذه المؤثرات بصفتها عوامل ذات أثر نافذ، وأقصد بها المؤثرات الهندية التي بدت بصورة محسوسة منذ العصر الذي انتشر فيه الإسلام شرقا حتى حدود الصين، فتخطت أفقه تدريجيا تلك الآراء الهندية التي ظهر بعضها في الآثار الأدبية والبعض الآخر في الفكر الديني الإسلامي"؛ ومن المعروف عن أمة الهند أن لديهم عبادات قديمة مرتبطة بالبوذية، تقوم على أسس فكرية وروحية في تصورها لعقيدتها.

ويذكر الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي بعض الصوفية المسلمين ممن وجد فيهم ملامح التصوف الهندي، من أمثال "الحارث المحاسبي وذي النون المصري، وأبي يزيد البسطامي، والجنيد". ويتفق الصوفية المسلمون مع التصوف الهندي في "طرائق الزهد، والعبادة والتفكر، والذكر، والمعرفة، والفناء، ووحدة الوجود"؛ ويذهب المستشرقون إلى أن فكرة وحدة الوجود هندية الأصل، ويرون أنها ترجع إليه فكرة المحاسبة والمراقبة التي حلت في التصوف محل الزهد في العصر القديم"؛ وبهذا فإن التصوف الهندي قد كان رافدا من الروافد الاعتقادية التي أثرت في فكر الصوفية المسلمون في العصر العباسي.

المصدر اليوناني:

يذهب المستشرقون إلى تبني نظرية المصدر اليوناني للتصوف العربي الإسلامي، ومن القائلين بهذه النظرية ماكس مركس (Max Merx) وديلاس أوليري (Dilas Oliri). وقد "حاول أوليري أن يثبت أخذ الصوفية من المصدر اليوناني منذ القرن الثالث الهجري وما بعده، وللبرهنة على ذلك رأى أن الأثر المباشر الذي تسرب إلى الإسلام عن نقل الفلسفة اليونانية كان قد سبقه أثر يوناني غير مباشر عند اللغتين السريانية والفارسية". وهذا الأثر للفكر اليوناني مع الفكر العربي في العصر العباسي كان بفعل ترجمة المؤلفات اليونانية؛ مثل مؤلفات أفلاطون، وأرسطو وغيرها من المصادر التي تكلم فيها أصحابها عن قضايا متعلقة بالعقائد والوجود والدين.

وقد قارن (وين فايلد) بمقارنة بين "ما جاء في الأفلاطونية من أوصاف للواحد وما ذكره الصوفية من صفات الله تعالى كما قارن الإلهام الصوفي والإشراف الباطني عند الأفلاطونية المحدثة ورأي ما بينهما من تشابه أو تماثل وأسس على ذلك أن الصوفية قد استمدوا ذلك من تلك الأفلاطونية الجديدة"، وقد توصل البحث الاستشراقي في هذا إلى أن هذه العلاقة ترجع إلى سنة 200ه.


المصدر الإسلامي:

يعد الدين الإسلامي مصدرا من المصادر الأساسية للتصوف الإسلامي، وإذا أردنا الحديث عن معنى المصدر الإسلامي، فإننا نعني به القرآن الكريم الحديث النبوي الشريف. لكن الخوض في هذه القضية له محظوراته في الفقه الإسلامي، ولذلك يعترف الشيخ كامل محمد محمد عويضة بهذه الصعوبة فيقول: "إننا قبل أن نخوض في بيان أثر هذه المصادر في نشأة التصوف الإسلامي نشير إلى صعوبة بالغة لفتت أنظار الكثير من الباحثين ألا وهي أن الإسلام نفسه قد أتى بالنصوص الواضحة التي توضح بما لا يدع مجالا للشك بالتوحيد الإلهي في صورة منزهة محددة"؛ وكانت النصوص القرآنية توضح معالم العقيدة الإسلامية للمسلمين سواء أكانوا زهادا أم صوفية.


خاتمة :

تعددت قضايا الأدب الصوفي بتعدد المصادر التي تستقي منها أفكارها وإديولوجيتها، عبر مجموعة من الشعراء الذين كان الترحال ميزتهم الأولى من أمثال أبو منصور الحلاج، ابن عربي وغيرهم، مما جعلهم يتأثرون بأفكار البلدان التي دخلوا إليها، فنقلوا هذه الأفكار والقضايا إلى الثقافة العربية، فتشكل الخطاب الأدبي الصوفي من جملة هذه القضايا: كقضية الحلول والاتحاد، وحدة الوجود، العشق الإلهي، الحقيقة المحمدية. من مصادر غير عربية في أغلبها من الحضارات الهندية والمسيحية واليونانية. مما أدى إلى إثراء الأدب الصوفي العربي.

................................

الفصل 02: جماليات الأدب الصوفي 


مقدمة:

لا يمكننا فهم العالم والوجود إلا بواسطة ما نمتلكه عنهما من لغة، وتقوم العملية الإبداعية بإنتاجيتها النصية بدور الوساطة بين الذات المبدعة والعالم، من خلال وسيط عالم اللغة. وعندما يتحول العالم إلى نص تتصاعد الرمزية وتتكثف الإشارية، لأن طرق التمثيل لهذا العالم متعددة ولا نهائية، وخاضعة لعمليات خاصة بالذات المبدعة، وبالتالي، فالنص يتحول إلى كائن يقول وكذا يعبر عن كينونته الخاصة، وهي كينونة العالم الذي تحمله لغته، فعبر الرمزية يتم الجدل المثمر بين الكتابة والقراءة، الكتابة تثبت تمثلات العالم وتكثرها عبر الرمز، والقراءة تقوم بفك الرموز. والأساليب الصوفية في الكتابة تتوشح بخصائص رمزية تتجاوز لغة الشعر المعهودة؛ إذ تمنحها دلالات أخرى، ومن هنا يمكن القول أن اللغة الرمزية الصوفية لها جماليات خاصة تميزها عن غيرها.

أولا: الرمز الصوفي

مقدمة:

على خلاف الرمز الأدبي تأخر طور نضج الرمز الصوفي واكتماله حتى القرن الثالث للهجرة وما بعده، ذلك أن الصوفية لم يشغلهم في القرنين الأولين التعبير الفني عن تجاربهم بقدر ما شغلهم المصطلح اللفظي الذي يُدلون به عن أحوالهم ومقاماتهم ومواجيدهم، ووضع القواعد السلوكية التي تحقق للصوفي درجة الكمال الروحي. ومن بين أهم الرموز التي استعملها الصوفية في أشعارهم ما يلي:


1 رمز المرأة:

تشكل المرأة رمزا في شعر الصوفية له قيمته الفنية من خلال توظيفه كشكل أنثوي مشرب بأبعاد إلهية، ويوضح الدكتور عاطف جودة نصر هذا بقوله: "تظهرنا دراسة ما خلق الصوفية من تراث شعري وتأملات ثيوصوفية، وما حفلت به بعض مذاهب الشيعة من اتجاهات عرفانية على تصور المرأة بوصفها رمزا لجوهر أنثوي أشرب طبيعة طبيعية إلهية مبدعة"

ومنه قول ابن الفارض:

وأبثثتها ما بي ولم يك حاضري

رقيب بقا حظ بخلوة جلوة

وقلت وحالي بالصبابة شاهدي

ووجدي بها ماحِيّ والفقد مثبتي

هبي قبل يفني الحبّ منّي بقية

أراك بها لي نظرة المتلفّت

إلى قوله:

فلو قيل من تهوى؟ وصرحت باسمها

لقيل: كنى، أو مسّه طيف جنّة

ويعلق الدكتور إبراهيم محمد منصور على هذه الرمزية، بقوله: "أما ابن الفارض فقد استخدم رمز المرأة بطريقة بعيدة عن الحسية، فللمعشوقة، وهي الذات الإلهية، صفات بشرية وصفات أخرى روحية، وغالبا ما يشار إليها بضمير الغائبة أو بضمير المخاطبة، فصورة المحبوبة في هذه القصيدة صورة رمزية سامية، بعيدة عن الحسية، وهي أجلّ من أن يسميها لأنه لو سمّاها، إما يصدقه أحد أو أن يتهم بالجنون"؛ وبهذا عدت المرأة معادلا موضوعيا عند شعراء الصوفية، ورمزا يعبرون به عن حبهم الإلهي.


2 رمز الخمرة:

للخمرة حضور رمزي في الشعر الصوفي له دوره الفني والتّعبيري غير أن الصوفية لم يكن يهمهم الجانب الحسي والشهواني فيه، "ولكنهم كانوا كمن ينشئ رمزه الخاص برغم استخدامهم لنفس الصور والتشبيهات والمعاني والألفاظ، فشعر أبي نواس وغيره من شعراء الخمر كان ينشد للتعبير عن المواجيد والهيام"، وهذا يشبه كثيرا قول القشيري: "فإذا كوشف العبد بنعت الجمال، حصل السكر، وطاب لروح، وهام القلب"، وقد أنشدوا:

فصحوك من لفظي وهو الوصل كله

وسكرك من لحظي يبيح لك الشربا

فما حلّ ساقيها وما ملّ شارب

عقار لحاظ كأسه يسكر اللُّبا

ومنه أيضا:

لي سكرتان وللندمان واحدة

شيء خصصت به من بينهم وحدي

فكلّ شخص بدا لي أنه قدحي

وكلّ لحظ أراه فهو لي ساقي

ويهذا الطرح الرمزي فإن الخمر الصوفية مجازية عن السكر العادي، الذي نعرفه، ولكنها سكر من خمر المحبة الإلهية، حتى حصول النشوة الرحبة التي لا يدركها إلا الصوفية، فقد شكّلت رمزيّة الخمر عند المتصوّفة ورجالات العرفان حالةً تجريديّة تؤدّي المفارقة الكبرى عن معناها الحسّي القائم في الفكر العام، لتكون المعادل الرمزي لحالة النشوة الروحية، فالخمر بوصفه طقساً روحانياً لم يكن وليد زمنٍ مبكرٍ، إنّما له امتدادٌ تاريخيٌّ عميق، يصل حتّى تخوم الأساطير الموغلة في القدم.


3 رمز الطبيعة:

كانت الطبيعة مصدر إلهام للشعراء منذ القدم، يستلهمون منها مادة التشكيل الشعري بكل أبعاده الفنية، غير أن الصوفية اتخذوا منها رمزا للتعبير عن أحوالهم، يقول الدكتور إبراهيم محمد منصور في هذا: "رمز آخر عُني به الصوفية هو رمز الطبيعة، فقد نظروا إلى المخلوقات جميعا على أنها مجلى من مجالي الحق، والجمال الإلهي، ولابد أن يكون الشجر والأنهار والورد وكل مظاهر الجمال في الطبيعة مصدرا من مصادر الإعجاب، ورمزا من رموز الصوفية الشعرية الجميلة". فالطبيعة لدى الصوفية ليست كالطبيعة التي يتصورها غيرهم من الشعراء، فهي المهرب الذي يلجؤون إليه من متاعب الدنيا، وهي حلمهم الأكبر في الآخرة، وهي بالنسبة لهم تشكل تجلي من تجليات الجمال الإلهي.

ويذهب ثروت عكاشة إلى القول في معرض حديثه عن الرمز الطبيعي في الشعر الصوفي: "أو لم ير جلال الدين الرومي أن كل ما في الحدائق من زهور ومياه وينابيع وأشجار هي تجلي الجمال الإلهي والنموذج الأمثل للجنة العليا، وتنسّم المتصوفة ففي كل وردة نفحة من عطر الجنة، وتسمّع الصوفية في حفيف الورود إلى تسبيحها لله ..."وإن من شيء إلا يسبّح بحمده"، وكان ذو النون المصري يعلم مريديه أسرار هذا التسبيح الذي تشارك ففيه الخليقة كلها قبل القديس فرنسيس الأسيزي بأربعة قرون". وقد خلّف الصوفية تراثا شعبيا غنيا بالرموز الطبيعية.

ومن هذه الرموز قول ابن الفارض:

تراه إن غاب عنّي كلّ جارحة

في كل معنى لطيف رائقٍ بهيج

في نغمة العود والنّاي الرخيم إذا

تألفا بين ألحان من الهزج

في مسارح غزلان الخمائل في

برد الأصائل والأصباح في البلج

وفي مساقط أنداء الغمام على

بساط نور من الأزهار منتسج

وفي مساحب أذيال النسيم إذا

أهدي إلي سحيرا أطيب الأرج

وفي التثامي ثغرا كأس مرتشفا

ريق المدامة في مستنزه ففرج

والمتأمل في هذه الأبيات يجد أن العشق الإلهي يمتزج مع عناصر الطبيعة الحيوانية منها والطبيعة الساكنة، "والعشق الإلهي مرتبط بجمال الذات الإلهية، ولهذا كان ارتباط العاشق والمحب الصوفي بالطبيعة هو ارتباط بجمال الحق، وقد صور ابن الفارض حبه الإلهي ممتزجا بتمجيده للطبيعة ومجالي الجمال فيها، تصويرا جميلا ففيه تمجيد لمظاهر القدرة الإلهية، وصور الجمال التي هي صورة الحق، باعتبار كل ما في الوجود إنما هو مجلى من مجالي جمال الذات المقدسة".

والطبيعة تشتمل على أنغام وألحان، وغزلان، وخمائل، ونسيم وأنداء وغمام وهي مظاهر طبيعية تعد انعكاسا لجمال الذات الإلهية المقدسة، تؤثر في نفس الشاعر وتثير فيه النشوة والرضا والسكينة والمحبة، ويشعر كأنه في حضرة الخالق عز وجل.


ثانيا: اللغة الصوفية:

1 اللغة والتجربة الروحية للمتصوف:

لا شك أن اللغة مجموعة من الرموز يعبر بها الصوفي عما في نفسه من مكنونات، وهي "تصبح أكثر حساسية كلما تعلقت بشعور جوهري لدى الإنسان"؛ وهذا ما يعبر عنه في التجربة الشعرية الصوفية باللغة الشعرية. وقد حدد الدكتور خناثة بن هاشم تطور انفعالات الصوفية وعلاقتها ببلاغة اللغة الشعرية في ثلاثة مستويات هي:

أ- اللغة ففي طور الحب والحلم والتمني

ب- اللغة في طور الحب والجمع والتجلي.

ج- اللغة بين جدلية الصحو والسكر.

وفي هذا الإطار، فإن علاقة وطيدة تنشأ بين عاطفة الحب وبين اللغة كأداة تواصل، يقيم من خلالها علاقات متبادلة، وهذا ما يؤكده الأستاذ خناثة بن هاشم، بقوله: "والشاعر الصوفي إذ تهيمن عاطفة الحب على مجال الرؤية لديه فإن حساسية اللغة تتكاثف بشكل ملحوظ فيقيم علاقة متبادلة بين مشاعره وبين ما ينتمي إلى لغة الحب وانفعالاته"؛ فاللغة هي ترجمان العواطف في الشعر الصوفي، فهو يوظف معجم متعلق بألفاظ الحب والغزل والخمرة والطبيعة، لا لشيء سوى لتحقيق التوازن بين متطلبات الروح ومتطلبات البدن.

وفي بيان هذا التوازن يقول الأستاذ خناثة بن هاشم عن الشاعر الصوفي: "فهو يستعمل لغة الحب والغزل والخمر والطبيعة، ويحاول بذلك أن يصنع معادلة التوازن بين التطلع للقيم الروحية بين طاقات المتصوف ونزواته الأرضية".

إنها لغة ذوق وأحوال لا لغة عقل وجدال؛ فالحب يذاق ولا يعقل، واللغة عن قول هذا الحب قاصرة، أعني لغة العبارة؛ ذلك أن السر الصوفي ليس معنى ماثلا، أو فكرة ذهنية يمكن أن تحملها وتقولها لغة العبارة، المعنى الصوفي كشف إذا عبر خفي. من هنا يبدو أن اللغة الصوفية الإشارية، بما هي لغة حب وسر، ليست وسيلة تواصل وتبليغ، فهي ليست تدوينا لفكرة، أو وعاء لمعنى، أو جسرا لعبور دلالة؛ لأنها كفت عن أن تكون عبارة، إنها إيماء وتمليح وليست لغة بلاغة وتوضيح، بل ربما كانت لغة للحجب والتغليط والتلبيس والتعمية؛ لغة تمجد الغموض؛ أعني الغموض بما هو استغلاق نابع عن خروج هذه اللغة عن المعايير السائدة والأليفة في القول والتعبير؛ فارتباط الإشارة هنا بالغيب والباطن يجعلها لا مرجعية وغامضة، بهذا المعنى تكون اللغة الصوفية لغة ليلية.


2 الخيال والصور الفنية:

يمكن القول إن الخيال من أهم عناصر التشكيل الفني في النص الشعري وإليه يرجع الفضل في نقل الأفكار والمعاني من عالم الروح والفكر إلى عالم الحس والمشاهدة. وبها يحصل التمثيل الخيالي. وفي هذا يقول ابن الفارض:

فيا مهجتي ذوبي جوًى وصبابة

ويا لوعتي كوني كذاك مذيبتي

ويا نار أحشائي أقيمي من الجوى

حنايا ضلوعي فهي غير قويمة

ويا حسن صبري في رضا من أحبّها

تجمّل وكن للدّهر بي غير مشّمت

ويا جلدي في جنب طاعة حبها

تحمّل عداك الكلّ كلّ عظيمة

إلى قوله:

تجمعت الأهواء فيها فما ترى

بها غير صبّ، لا يرى غير صبوة

إذا سفرت في يوم عيد تزاحمت

على حسنها أبصار كلّ قبيلة

فأرواحهم تصبو لمعنى جمالها

وأحداقهم من حسنها في حديقة

وعندي عيد كل يوم أرى به

جمال محياها بعين قريرة

وكل الليالي ليلة القدر إن دنت

كما كل أيام اللقا يوم جمعة

إلى قوله:

ولا سعت الأيام في شت شملنا

ولا حكمت فينا الليالي بجفوة

ولا شنّع الواشي بصد وهجرة

ولا أرجف اللّاحي ببين وسلوة

ولا استيقظت عين الرقيب ولم تزل

عليّ لها في الحب عيني رقيبتي

فالمتأمل في هذه الأبيات الشعرية يجد أن ابن الفارض يمتع بلغة شعرية ذات طابع غنائي غزلي المشرب وجداني الروح، يحاول من خلاله أن يعبر عن حبه الإلهي باستخدام الصور الخيالية ذات البعد الحسي، ويوضح هذا الأستاذ خناثة بن هاشم: "فنحن نظفر بشعر صوفي تزدحم خلاله الصور الحسية. لكن المتعة الحسية التي تحققها لنا هذه الحسية في الصورة لا تعدو أن تكون مطيّة فنية متميزة، توصلنا إلى بؤرة التجربة الخيالية في صميمها، كأن يصف حبه الإلهي في لغة غزلية رقيقة مهيبا بمكونات التلويح الصوفي إلى المرأة"( )؛ فشعرية الصورة تتأتّى ليس من كونها حسية مشخصة، وإنما تأتي من كونها عبارة عن تمثيل خيالي. ويوضح خناثة بن هاشم هذا التمثيل بقوله: "يلجأ الشاعر هنا إلى الطابع الغنائي يلوح من خلاله إلى طبيعة انفعالاته التي ترتفع على العادي المألوف، ويمارس لغته على لغة الغزل، والحب، يفتّت بناها يخترق نمطيتها ويحيلها بلاغة خاصة، صالحة لقول ما لا يقال أو ما يصعب قوله من تمثلات خيالية على مستوى التجربة، ما هو أمسّ بالذاتي، والنفسي الباطني في تفاعلهما خيالية على مستوى التجربة، ما هو أمسّ بالذاتي والنفسي الباطني في تفاعلهما مع الآخر الظاهر والاجتماعي والثقافي" ( ). فلغة الشعر الصوفي تتخذ من لغة الحب والغزل ما يسمح له بتخطي التجربة العاطفية الإنسانية إلى بلوغ تجربة العشق الالهي. ومن هنا تتحول اللغة العادية إلى لغة رمزية إشارية.


 خاتمة:

شكل الرمز أهم الخصائص التي تميزت بها لغة الشعراء المتصوفة، من حيث أساليب الكتابة وطرائق التوظيف، وتنوع المصادر، حيث نجد فيه الرمز الأنثوي الذي يوظف المرأة، والرمز الطبيعي الذي يعتمد على مواد الطبيعة وعناصرها المختلفة، وكذلك رمز الخمرة الذي يستبدل به الشاعر الصوفي الخمر العادية بخمر أخرى روحية تعتمد على المحبة الإلهية التي يسكر بها الصوفي سكرا غير عادي، والواضح أن الشعراء الصوفيين هم أول من مَارسَ إعادة التشفير اللغوي في الشعر قديما عن طريق نزع الدلالات الأولى الحسية والدنيوية لكلمات تتصل بمجالات الجنس والخمر وحالات النفس لإدراجها في أنساق رمزية جديدة، كما تتداخل الصورة والخيال مع الرمز بكل أنواعه، بالإضافة إلى اللغة الصوفية ذات الإيحاءات والدلالات الإبداعية المتميزة.


Modifié le: jeudi 4 juillet 2024, 10:19