Aperçu des sections

  • Section 1

    المحاضرة الأولى مدخل إلى النقد العربي الحديث 01

     

    المفهوم الحديث للنقد العربي

    -تمهيد :

        كثرت الدراسات والأبحاث عن مفهوم النقد ووظيفته,ومهمة النقد وصفاته,وصبت جميعها في معين واحد ومفهوم طبيعة العمل الأدبي وتطوره,ومعالجة الآثار الأدبية علاجا منظما يكشف عن أفكارها وقيمها,ومن الواضح أن النقد الحديث يساعد القارئ على تفسير الأثر الأدبي ووصله جماليا بالموروث القديم والوافد الجديد لتحديد ملامحه.

    1.    النقد قديما:   

    تعددت معاني النقد في اللغة .. فمنها :

    تمييز الدراهم لتبين حاله جودتها من رداءتها فيقال : نقدت الدراهم، ومنها نقد الجوز بالإصبع لاختياره وتعرف حاله .زمنها ضرب الطائر بمنقاره في الفخ ليكشف عما وراءه ومنها العيب والتجريح كما في حديث أبي الدرداء :رضي الله عنه " إذا نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم تركوك". أي إذا عبتهم عابوك [1].

    المفهوم الاصطلاحي للنقد: للنقد عدة تعريفات منها .. الكشف عن جوانب النضج الفني في النتاج الأدبي وتميزها مما سواها عن طريق الشرح والتعليل،  ومن ثم يأتي بعد دلك الحكم العام عليها .

    ويتضح من ما سبق إن للنقد عمليتين أساسيتين هما التفسير والتقويم. فبالتفسير يقف القارئ على ما في النص كم قيم جماليه مثل :الصور والإيقاع والموسيقى ويوضح العلاقات الفنية والمعنوية بين عناصر النقد.

    أما التقويم .. يستطيع القارئ مستعينا بالممارسة الأدبية والخبرة النقدية إن يصدر أحكاما على النصوص من حيث الجودة أو الرداءة أو بقوة التأثير العاطفي أو ضعفه. كما أن بعض النقاد يعدون النقد عمليه إبداع , فهو يحتاج لموهيه تصقل بالتدريب والإكثار من قراءة النصوص الأدبية

    2.    مراحل تطور النقد الأدبي:

        مر النقد الأدبي بمراحل متعددة , بداء بالنقد البسيط الذي يصدر بصورة عفويه شفوية دون تدوين أو ضوابط منهجيه واضحة ثم انتقل لمرحله التدوين التي أسهمت في تطوير ورقي الكثير من العلوم والفنون والمعارف ,ثم انتهى إلى نقد منهجي يقوم على قواعد وأسس , مثلما يقوم على بيان الأسباب التي قادت للنتائج التي يتضمنها التفسير أو التقويم.

    واستعمال النقد في مجال الأدب قديم قدم الكتب النقدية العربية التي ارتبطت باسمه، وهو كذلك لا يتعلق بالنثر أو الشعر فقط، ولكن يطال كل منهما بالتمييز والدراسة " والنقد في الأدب عبارة قديمة ذكرها الزمخشري ت 538ه وكانت معروفة قبل عصره بقرنين من الزمان، فقدامة ألف نقد الشعر ت 337ه وورد لفظ النقد والنقاد في كتاب الموازنة للآمدي ت 371ه كما أن ابن رشيق أسمى كتابه العمدة في صناعة الشعر ونقده ت 463ه وغير ذلك..."[2]

    3.    المفهوم الحديث للنقد الأدبي:

        انطلق كل ناقد وكل دارس من قناعاته الفكرية والفنية التي تشكل وجهة نظره لإعطاء النقد مفهوما يتلاءم والاتجاه الذي ينتمي إليه فهناك من يصف العملية النقدية مثل ت.س.البيوت أنها: " التعليق على الأعمال الأدبية وعرضها عن طريق الكلمة المكتوبة) ([3]

         و هناك من يرى العملية النقدية الأدبية تفسير لجمال العمل الأدبي,وتوضيح وإبراز لطريقة الأديب في الإعراب عن أفكاره وفي هذا الصدد يقول عبد الله الركيبي: "فإذا كنت مهمة الأديب التعبير عن إحساسه بما حوله,والواقع الذي يصوره بحيث يعكس ذالك في صورة جميلة ومؤثرة أو بمعنى آخر,إذا كان الأديب يشكل المادة الأولى الأساسية ليجعل منها عملا مؤثرا قادر على نقل الإحساس بالجمال من جهة وإبراز القيم الإنسانية من جهة أخرى,إذا كانت هذه مهمة الأديب المبدع,فإن مهمة الناقد هي تفسير هذا الجمال,إظهار طريقة الأديب في البحث عن الخير أو نقد الحياة وما فيها من زيف أو ظلم أو شر" ([4])

          ومن خلال هذا الوصف يتضح جليا أن مهمة المبدع تكمن في تصوير العالم بشقيه الجمالي والإنساني,أما مهمة الناقد فتكمن في تفسير هذا العمل وشرح صوره الخيرة والشريرة وبهذا يظهر وبهذا يظهر دور الناقد كوسيط بين الأديب والقارئ,وبالتالي يمكن أن نقول بأن مهمة الناقد تظهر في "التوسط بين الشاعر (الأديب) والقارئ إنه يخدمهما بما لا تحتمل معه كلمة الخدمة من تقليل الشأن,إنه يصل بين طرفين,ويعقد روابط التفاهم والألفة والحب,وليس هذا بالتقليل,لأنه يكون وإياهم مادة المجتمع مظهرا من مظاهر الحضارة ووسيلة من وسائل الحياة" ([5])

        4-صفات الناقد الأدبي:

    4-1- صفاته عند  النقاد العرب القدامى:

         طالب النقاد القدماء النقاد بمنظومة معرفية متكاملة,حتى يكون النقد مؤهلا,ليتعرف على الأدب ويفهمه قبل الحكم عليه,ويقول ابن سلام الجمحي في هذا الصدد: "والشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات" ([6]) ويقول أيضا:"وقال قائل : إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك ,فقال له: إذا أخذت أنت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف: إنه رديء هل ينفعك استحسانك له."([7])

       بدأ العرب نقدهم بعبارات نقدية ذاتية ورصدوه في جمل مركزة تصف شاعرا أوناقدا أو قصيدة أو خطبة أو نحو ذالك مما قد يومئ إلى فكرة ما, فقيل على سبيل المثال في وصف ميمية علقمة بن عبدة "هل ماعملت وما استودعت مكتوم) أنها سمط الدهر,وعندما سمعوا عينية أبي ذؤيب الهذلي (أمن المنوم وريبها يتوجع) قالوا إنها أروع شعر أنشد في الرثاء.

    وفي قول منصور النمري عن السيب:

    ما تنقضي حسرة مني ولا جزع       إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع.

        أجمع النقاد بعلم الشعر على أنه لم يقل أحسن من هذا القول,وقد يتجاوزون هذا إلى عرض خاطف لخصائص بعض الكلمات ومآخذ في العروض أو المعنى,إلا أن هذا كله لا يتحول إلى نظرية نقدية ويظل يحمل طابع الفطرة لزمن متأخر حتى أيام الأصمعي وخلف الأحمر أبي عبيدة معمر بن المثنى.وفي كتاب *طبقات الشعراء* ظهرت بعض الومضات الذاتية الخاطفة. لكن بعده بدأنا نرى إشارات واعية إلى تعليل الذوق الأدبي, ومن ذالك على سبيل المثال: المزرباني في كتابه *الموشح*والجرجاني في كتابه *الوساطة بين المتنبي وخصومه ثم الآمدي في *الموازنة بين الطائيين*

       وهكذا بين الذاتية والموضوعية,نرى في واقع الأمر من العسير الوقوف على نقد موضوعي خالص حتى في أزهى عصور الأدب, لسبب جوهري هو أن الدوافع الإنسانية –التي تكون دائما غامضة معقدة ووراءها تحيزات مختلفة كتلك التي تتعصب للطبقة الاجتماعية أو للمبدأ الجمالي أو الاتجاه الفكري-تمتد أصولها إلى الذات والطبيعة جميعا. ([8])

         يعتبر قدامه بن جعفر من النقاد المدققين في القرن الثالث من خلال كتابه المشهور *نقد الشعر* إذ يقول في عرضه للنمط العام لكل معنى من معاني الشعر-كالمدح والهجاء والرثاء-أنه لابد من أن يكون المعنى مواجها للغرض المقصود غير عادل عن الأمر المطلوب.([9])

    وفي حديثه عن معاني الشعر فقرر أنها شائعة وقائمة وهي بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة,تماما مثل الخشب للنجارة و الفضة للصياغة.([10])

    وعلى هذا يجب على الشاعر أن يكون حذرا في وضع معانيه لتجويد الصورة, وذالك ان يحتل على المعاني بشتى الحيل هذا من جهة وأما من جهة أخرى على الناقد هو الآخر ألا يفوته ذالك التفاعل بين النفس والطبيعة من حيث إن الأدب يشكل تجربة ميدانها الأول خارج الذات.

    4-2- صفاته عند النقاد المحدثين:

         وكما سبق الحديث عن صفات الناقد في القديم و التي حددها النقاد العرب بأن عليه الإطلاع على الكثير من العلوم العربية من نحو وصرف ,حفظ القرءان الكريم والأحاديث النبوية الشريفة إضافة إلى الناقد هو الآخر ألا معرفة وقائع العرب والأمثال,وعلم العروض هذا الذي يختص به الناظم دون الناثر حتى يتمكن من معرفة ميزان الشعر.

    إن هذه الصفات هي التي وقف عندها النقاد المحدثون وفضلا عن هذه المعارف والثقافات عليه أن يحيط بأسرار اللغة العربية آدابها وأن يكون عارفا تطورها وتاريخها,كما عليه أن يحيط  بالمدارس الأدبية ومذاهبها وأسسها اتجاهاتها ومظاهر تأثرها ببعضها.

          وإذا كان الناقد مطالبا بهذه الخلفية الثقافية الشاملة فلابد أن تتوافر فيه مجموعة من القدرات الفطرية التي دونها لا يستطيع أن يتذوق الأدب وأن يدرك أسرار التعبير,أن يحس بما لا يحس به غيره وهذه مجموعة القدرات الفطرية التي لابد للناقد أن يتجلى بها هي ما يطلق عليه الذوق الأدبي.

    -الذوق الأدبي:

         مما لا شك فيه أن استخدام العلم لإنماء البصيرة الناقدة أمر بالغ الأهمية غير أن الإفراط فيه يطمس الحقيقة الأدبية من ناحية ويفتح من ناحية أخرى باب النقد لمن يدعون إلى أن يصبح للنقد دقة العلم اليقيني وهم لا يعرفون تماما طريق النقد,وإلا فيم تفسير ظاهرة شيوع غير المختصين بين النقاد؟ وبم نفسر ظاهرة الخلط الشديد بين تاريخ الأدب ونقده,وبين نقد الأدب والكاتبة عنه,وبين الكتابة عن الأدب ورصد قيمه الجمالية والاقتصادية؟

    لا يمكننا إطلاقا أن ننكر الإضافات المتميزة التي جاء بها العلم للنقد الأدبي لكن ينبغي في الوقت نفسه أن نسلم بأن العلوم كلها ليست بذات أثر مباشر في النقد,لأنه لو طغت العلوم على العملية الإبداعية لكانت النتيجة في أخر المطاف عملية بيولوجية أو غيرها من العمليات التي تحتاج فقط إلى التفسيرات العلمية. إننا لا نريد ان نقول بعدم جدوى العلم في النقد, لأن هناك شيئا آخر يحتاج إليه الناقد لفهم طبيعة العمل الأدبي من حيث هو إبداع وهوالذوق الأدبي النقدي المتصل اتصالا وثيقا بالجانب الوجداني.

     

     

    خلاصة:

    يلعب الناقد دورا أساسيا ومهما في توسطه بين المبدع والقارئ,لأنه يحاول التحليل والتفسير لبسط العمل الأدبي بين يدي القارئ,وهكذا دوره وعمله جليل في قراءة أفكار الأديب ومحاولة إيصالها إلى القارئ بوسائله التي يراها مناسبة في القراءة والتحليل والتفسير.وكما هو واضح أن الناقد الحقيقي تتوفر فيه صفات فكرية وفنية حتى يتمكن من القيام بمهمته على أكمل وجه

    العلاقة بين النقد والأدب

    1-الأدب والنقد:

          يعد موضوع علاقة الأدب بالنقد من أكثر المواضيع معالجة وتمحيصا ودراسة, وقد شكل جدلا في أوساط الدارسين والباحثين , فكان محل اهتمام الأبحاث النظرية والتطبيقية لأن هذان الطرفان مرتبطان ارتباطا وثيقا فوجود أحدهما شرط لوجود الآخر فلا وجود للنقد بدون وجود نص أدبي.

        وقد أثبتت الدراسات السابقة أن الأدب أسبق زمنيا من النقد ,والأدب حالة عاطفية مرتبطة بالجانب الوجداني, ولكن ما يجب أن نعرفه أن الأدب لا يمكن أن يتطور ويرقى إلى المرحلة التي وصل إليها حاليا بدون قلم الناقد, فهذا أمر بات من البديهيات بمعزل عن مستوى النص الأدبي وكذالك بمعزل عن مستوى النقد المواكب له.

          يمكن وصف العلاقة بين الأدب والنقد بأنها علاقة حية قديمة قدم ظهور هذين النشاطين الإبداعيين, وفي هذا الإطار يغدو من أهم الأمور أن نميز يسن النظر إلى الأدب كنظام غير خاضع لاعتبارات الزمن وبين التي تراه في الأصل على أنه سلسلة من الأعمال المنظمة حسب شق تاريخي,وعلى أنه أجزاء متممة للعملية التاريخية, ثم هناك تمييز أبعد بين دراسة المبادئ والمعايير الأدبية ودراسة أعمال أدبية معينة. ([11])

        علاقتهما جعلت الواحد يستوعب الآخر استيعابا شاملا بحيث لا يمكن فهم نظرية الأدب بمعزل عن النقد أو التاريخ,أو فهم النقد دون نظرية الأدب ولعل من أصناف القول أن علاقة النقد بالأدب ليست علاقة تبعية فحسب,إذا إن النقد هو الذي يبلور اتجاهات يعينها ويعيد تشكيل عناصر العمل الأدبي ويسعى إلى توجيه المسار الإبداعي في مرحلة من مراحل مسيرة الأدب إنما يتجاوز علاقة الالتصاق والتبعية تلك ليرتاد ميادين جديدة يأخذ فيها دورا تبشيريا ورياديا بما يدعو إليه وينظر له ويتنبأ به,إذا كان النقد يستمد من النصوص الأدبية قواعده ومعاييره وأصوله فإنه سرعان ما يطور تلك الأعراف, يعدل منها ويبصر المبدع بقيم وتقاليد من شأنها أن تثري تجاربه وتعمق جدل العلاقة فيما بين الأدب والنقد تأثرا وتأثيرا,أخذ و عطاء. ([12])

       يمكن القول أن علاقة النقد بالأدب كعلاقة الذات الإنسانية بالعالم الكوني فلا شك أن النظر إلى الأدب ونصوصه يفضي إلى حكم عام غير متأكد منه نظريا وميدانيا, فمن ينتج الأدب لا ينتج المعنى فحسب, بل ينتج شكلا ما أيضا وينتج عمله في ضوء علاقته بنصوص سابقة عليه .([13]) وغايته أن يكون مختلفا ومجددا, والقراء المهووسون بالأدب لا يبحثون عن المعنى فحسب بل عن جدة طريقة التعبير عنه فنيا أيضا, والنص الأدبي يحتاج إلى الناقد كي يقول للناس أسرار هذه الجدة, لا المعنى , كما أن الناقد عليه أن يفكر في السبب الذي أعطيت بموجبه لهذا النص معاني محددة دون أخرى.

         من خلال هذا لا يفوتنا أن نستنتج بأن العلاقة بينهما علاقة تكاملية وتدا خلية أو بالأحرى هي علاقة تعالق وتشابك بمعنى أن الناقد الحقيقي هو الذي يفهم المؤلف, ولا يعتدي على حق الأديب,فالأمر همنا بين الأديب والناقد , الأديب ينتج نصوصا وهذه النصوص تستدعي ناقدا يلقي الضوء على مواطن الجمال فيها ومواطن الضعف عن تحليل التحليل والتعليل والتفسير.

         وإذا كان الأديب والناقد يشتركان في الحساسية المرهفة والعمق الوجداني لكنها يجب أن يختلفا في النظرة إلى الأشياء والأشخاص,فليس من المطلوب أن يدلي الكاتب بمقولات نقدية في سياقه الإبداعي قد نجد بعض اللمحات النقدية في السرد الروائي مثلا, وهذه لن تكون مقنعة إلا إذا أفلح الروائي في تقديمها في السرد الروائي مثلا, وهذه لن تكون مقنعة يبعد عنها الإفتعال الثقافي, فيغرق عمله ويخلخله بالأفكار المجردة التي لن تسهم في النهوض بالبناء الروائي إلا إذا أتت عن طريق التجسيد والفن.[14]

     





    • Section 2

      المحاضرة 02

      1.    عوامل نشأة النقد الأدبي العربي الحديث:

      استمد النقد الأدبي العربي الحديث حياته من واقع الحياة العربية الجديدة، والبعث الذي بدأ يدب في أوصال الفكر والأدب منذ القرن19م. وقد اتجهت النهضة الفكرية وجهات ثلاث: الدعوة العربية والدعوة الإسلامية والدعوة الأوروبية، واتخذت كل دعوة من هذه الدعوات الثلاث سبيلها إلى الفكر العربي عن طريق ما ألف وكتب المؤمنون بها من كتب ومقالات .وكان نصيب الأدب من هذه الدعوات الثلاث نصيب غيره من جوانب الفكر والفن، فهو الأخر قد تنازعته أيضا هذه الاتجاهات:

      *اتجاه دعا إلى بعث الأدب العربي القديم والاستعانة بروائعه لبناء النهضة الأدبية الحديثة، فاستعان الشعراء بما نظم أبو نواس وأبو تمام والبحتري وابن الرومي والشريف الرضي والمتنبي وغيرهم من فحول الشعر العربي القديم، وحاولوا تقليدهم أولا ثم محازاتهم(انحاز مال) ثم معارضتهم ومحاولة التفوق عليهم بما اكتسبوه من إمكانيات لم تكن لسابقيهم. وحاول النقد الجديد أن يلحق بهذه الحركة الجديدة في الشعر فيرعاها ويؤيدها ويدعو لها، من شعراء هذا الاتجاه البارودي ومن نقاده حسين المرصفي.

      *واتخذ الاتجاه الإسلامي سبيله إلى النقد عن طريق توجيه الشعر نحو المبادئ الإسلامية ومطالبة الكتاب والشعراء بإحياء تلك المبادئ والسير على هداها، وعدم الخروج على ما توارثناه من القيم الدينية. وكان الاتجاه الإسلامي ينحو أحيانا ناحية المحافظة والجمود ويخرج أحيانا من عقال الجمود منطلقا مجددا مستعينا بالفكر الحديث متطورا بين مقتضيات العصر موفقا بين الدين والحضارة قدر الإمكان. لكن هناك بعض الكتاب الغربيين تهجموا على الإسلام باعتباره منبعا للجمود والرجعية وعدم مسايرة الفكر والأخذ بأساليب العقل ومثال ذلك ما ظهر بين هنوتو(وزير الخارجية الفرنسي) الفرنسي ومحمد عبده.

      *أما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه الأوروبي فقد بدت دلائله واضحة على الأدب والنقد، في كتابات كثير من الكتاب الذين ثقفوا ثفافة غربية، وقد تحمس لهذه الدعوة رهط من الأدباء الشاميين فدعوا إلى الأخذ بأسباب التطور التي توجد في أدب الغرب والتنازل عن بعض السمات والملامح التي تطبع أدبنا وتعوقه عن السير في طريق التطور.

       

      1- مرجعيات النقد العربي الحديث:

      النقد القديم نبع من نبعين مختلفين كل الاختلاف, وتأثر بهما, واستمد منهما وهذا النبعان أو

       العنصران هما: الثقافة الأجنبية و الثقافة العربية القديمة.

      أ/ النقد العربي القديم أثره على النقد العربي الحديث:

           برز الكثير من النقاد العرب الذين أغنوا النقد وأغنوا الأدب بالدراسة والتحليل وسنذكر في هذا المقام بعض النقاد القدامى ومؤلفاتهم على سبيل المثال لا الحصر لأن القائمة طويلة والجهود جبارة ولا يسمح المقام للحديث عن كل النقاد مثلا: العالم اللغوي أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213هـ/828م) فيضع كتابه * الشعر والشعراء * الذي يقول فيه "...و لا نظرت إلى المتقدم منهم أي الشعراء بعين الجلالة لتقدمه, وإلى المتأخر (منهم) بعين الاحتقار لتأخره بل نظرت بعين العدل على الفريقين, وأعطيت كلا حظه ووفرت عليه حقه ... فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله , ويضعه في متخيره, ويرذل الشعر الرصين, ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله, ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن’ ولا خص به قوما دون قوم, بل جعل ذالك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر, وجعل كل قديم حديثا في عصره....([1])  هذه المقولة تبين أن ابن قتيبة كان ينظر إلى شعر الشاعر بعين رصينة لا بعين تفضيل المتقدم على المتأخر, وإنما يلاحظ بعين العدل والإنصاف وهو في ذالك يعتم على معايير  هي البلاغة واعلم وجودة الشعر فمن توفرت لديه هذه المعايير هو شاعر يستحق تلقيبه بذلك.

         ويعتبر عمر بن بحر الجاحظ هو واضع أسس النقد الموضوعي لما جاء في كتابه *البيان والتبيين* من موازانا هذه الموازانات التي أثمرت على تقبل ماهو جيد وحسن من شعر ومن الكتب النقدية المهمة في التاريخ العربي كتاب * نقد الشعر* لقدامة بن جعفر الذي قال في مقدمة كتابه : " فأما علم جيد الشعر من رديئه, فإن الناس يخبطون في ذالك منذ تفقهوا في العلوم فقليلا ما يصيبون.... و إن الناس قد قصروا في وضع كتاب فيه. رأيت أن أتكلم في ذالك بما يبلغه الوسع...." ([2])

          وقد توالى وضع الكتب النقدية في صناعة الشعر, حيث إن كتاب *نقد الشعر* لقدامة بمثابة فتح بكر في نقد الشعر هند العرب وهو أول كتاب مستقل تناول الشعر ونقده لما وضع حد الشعر وشروطه نظمه من حيث اللفظ والمعنى وائتلافهما.

           ثم يكون ثاني هذه الكتب كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشربن يحي الآمدي البصري

      ( ؟ - 370هـ) الذي يفصح في مقدمة كتابه عن رغبته في إقامة موازنة بين الشاعرين الطائيين لأبي تمام (192 هـ/231هـ ) والبحتري (206-284هـ/821-897هـ) وكل نيته إلا يفصح بتفضيل أحدهما عن الآخر ولكن يوازنه بين قصيدتين من شعرهما, إذا اتفقنا في الوزن والقافية وإعراب القافية, وبين معنى ومعنى, فيقول عندئد : أيهما أشعر في تلك القصيدة وفي ذالك المعنى ثم يترك الحكم للقارئ ليحكم على جملة ما لكل واحد منهما, إذا أحاط بالجيد والرديء ([3]) الآمدي في موازنته هذه حاول تطبيق معايير منهجية لمعرفة الخصائص الفنية لكل من أبي تمام والبحتري, كما أنه حاول أن يكون نقده موضوعيا نزيها بعيدا عن الانحياز.

            ويعتبر كتاب * العمدة * في محاسن الشعر وآدابه ونقده لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني (390-456 ) أحد أهم و أبرز الكتب النقدية والعلمية في النقد العربي القديم التي تناولت نقد الشعر وصناعته , يقول ابن رشيق عن الشعر وقيمة كتابه :" فقد وجدت الشعر أكبر علوم العرب وأوفر حظوظ الأدب وأحرى أن تقبل شهادته , وتمثل إرادته , ووجدت الناس مختلفين في كثر منه , يقودمون و يؤخرون, ويقلون ويكثرون, بوبوه أبوابا مبهمة ولقبوه ألقابا متهمة  وكل واحد منهم قد ضرب من جهة و أنتحل مذهبا هو فيه أمام نفسه , وشاهد دعواه , فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتاب ليكون العمدة في محاسن الشعر وآدابه إن شاء الله تعالى ."([4])

            ومن النقاد كذالك حازم القرطاجني (608-684هـ) وكتابه * مناهج البلغاء وسراج الأدباء * تناول فيه موضوع النقد عند العرب وتطور مفهومه تطويرا كبيرا وذالك من خلال إطلاعه الواسع على أعمال أرسطو عن فن الشعر , وقد صرح حازم عن منهجه بقوله : " قد تكلمنا من هذه الصناعة في حملة منفنعة , وبقيت أشياء لا يمكن تتبعها لكثرة تشعبها وتعذر استقصائها, وأشياء يمكن استقصاؤها واستقصاء عامتها بعد طول.

            فأما ما يعز استقصاؤه فذكر ما به يكون كمال الشعر وتفصيل القول في المهيئات له و الأدوات والبواعث عليه , ومن ذالك اعتبار كل نمط من أنماط اللفظ بكل نمط يوقع فيه من أنماط المعاني والنظام والأساليب... والتمييز بين ما يكون ملائما لما وضع بإزائهمن جميع ذالك وما يكون منافرا لوضعه." ([5])

      من الصعوبة استقصاء صناعة الشعر لأنها متشبعة , والذي يستقصي منها يحتاج إلى نفس طويل ووقت طويل , وإذا ضعف من ناحية من النواحي المذكورة (اللفظ  , المعنى...) يكون منافرا , ركيكا وضعيفا . هذه الأنماط أساسية للتمييزبين الشعر الجيد والشعر الرديء.

           ومن جملة النقاد الذين داع صيتهم في مجال النقد ابن هلال العسكري واضع كتاب * الصناعتين , الكتابة والشعر * وقدامة بن جعفر وكتابه * نقد الشعر * وعبد القادر الجرجاني صاحب الكتابين المشهورين * دلائل الإعجاز * و * أسرار البلاغة * والسكاكي صاحب كتاب * مفتاح العلوم * ابن سنان الخفاجي صاحب * سر الفصاحة * وغيرها من الكتب التي لا يمكن لهذه الصفحة التحدث عنها , ولكن كل ما يمكن قوله هو أن النقد العربي ظل خاملا في العصور الأخيرة التي سبقت مطلع عصر النهضة حتى حصل الاحتكاك في العصور الحديثة بين الشرق والغرب فنهض النقد من جديد.

            يقول أمجد ريان : "لقد تلاشت الإدعاءات التي كانت تنادي بالقطيعة الابستيمولوجية مع الماضي, وصرنا على العكس نحتاج إلى نظرية منهجية تعني بقضية التراث عموما , والتراث العربي خصوصا بعد كل هذه الجهود التي بدلها مفكرونا ونقادنا " ([6])

       خلاصة:

          النقد الأدبي تراث عربي عظيم , ترك لنا أسلافنا النقاد القدامى فيه كنوزا غالية ....فلما جاء العصر الحديث عاد النقد الأدبي إلى ساحة الأدب بتراثه ومؤلفاته الخالدة , ووفد علينا النقد الغربي بمناهجه المختلفة في كتب النقد الأوروبي التي ترجمت إلى العربية على أيدي الذين تعلموا في جامعات ومعاهد أوروبية , وعلى أيدي الأدباء الذين قرأوا للنقاد الغربيين مؤلفاتهم النقدية وتأثروا بها ([7])

      ب -النقد العربي الحديث وتأثره بالنقد الغربي:

            في العصر الحاضر , وبعد اتصال أدبنا العربي الحديث بالآداب الغربية وبمذاهب النقد المعاصر في الغرب , حصل تطور كبير في نقدنا العربي الحديث.

           فخضع نقدنا لما يخضع له النقد الغربي الحديث من مذاهب وتفسيرات علمية موضوعية مختلفة للنقد فهناك التفسير النفسي للنقد و الأدب, والتفسير الجمالي.... وغيرها من المذاهب التي وجهت النقد الغربي وجهة جديدة , وصار النقد تابعا لها , وصارت هي الرائدة الموجهة لخطواته, وتبعه في ذالك نقدنا العربي الحديث, فسار في نفس الطريق وخطا نفس خطواته

      (أ‌)    فالتطور مذهب فلسفي عند داروين , طبقه سبنسر على الأخلاق والاجتماع وعلم النفس وأخذ برونتير يطبقه على الأدب , فكتب عن تطور النقد وتطور الشعر الغنائي وتطور المسرح الفرنسي ورأى أن الوعظ الديني في القرن السابع عشر في أوروبا قد تحول إلى شعر غنائي رقيق هو الرومانتيكي في القرن التاسع عشر . .([8])

      (ب‌)                       مدرسة التحليل النفسي عند فرويد سيغموند في مطلع القرن العشرين والتي فسر على

      ضوء هذه النظرية السلوك الإنساني إلى منطقة اللاوعي ( وتجمع عامة البحوث والدراسات على أن الناقد شارل مورو نC. Mouron (1899-1966) الذي يعزي إليه مصطلح النقد النفساني

       (psychocritique) قد حقق النقد الأدبي انتصارا منهجيا  كبيرا , انفصل النقد الأدبي عن علم النفس, وجعل من الأول أكبر من أن يبقى شارح وموضح للثاني, مقترحا منهجا لا يجعل من التحليل النفسي غاية في ذاته, بل يستعين به وسيلة منهجية في دراسة النصوص الأدبية ) ([9])

            ودخل المذهب الفرويدي في التحليل النفسي في نقدنا العربي الحديث, فكتب عزا لدين إسماعيل كتابه * التفسير النفسي للأدب * وكتب خلف الله كتابه ( من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ) وعلى ضوء المذهب النفسي في النقد محمد كامل حسين دراسته عن المتنبي , وكتب العقاد دراسته عن أبي نواس وابن الرومي ودراسته للعبقريات الإسلامية ....([10])

         (ج) وتعد السريالية من المذاهب الفرنسية التي تأثرت بالتحليل النفسي ونظريات فرويد فجاء أدبهم كأنه هذيان محموم فلم يعش المذهب طويلا ولم تكن له أصداء خارج فرنسا فهو ولد فيها وقبر فيها. ( والسريالية تنفر من موضوعات الفكر الجارية وتحتقر الأساليب السائدة في أشكالها وصورها ومجازاتها وكلماتها , وتسخر من العقل ومنطقة , وجل إلهاماتها من الأحلام والرؤيا , وقد نفى العقاد أن تكون السريالية فنا ويمثلها في شعرنا المعاصر محمود حسن إسماعيل ......) ([11])

      (د) ثم جاءت الفلسفة الجمالية فدخلت إلى النقد من أوسع أبوابه , وصلة فلسفة الجمال أو علم الجمال بالفن والأدب بمثابة صلة المنطق بالنظريات العلمية , والتداخل بين فلسفة الجمال وفلسفة الفن واضح , ومن ثم امتدت الفلسفة الجمالية إلى الفنون الأدبية .... ومن دعاة الفلسفة الجمالية كانط الألماني (1804 ) وديدور  (1884) ومن أهم النقاد الجمالين كروتشيه الإيطالي وهذه الفلسفة تهدم القواعد الكلاسيكية في النقد وتقيم مكانها قواعد جديدة ([12])

      (هـ) وظهرت الفلسفة الواقعية بجناحها المادي والوجودي, وأخضعت النقد لنظرياتها الطويلة ....ويمثل مقدمة الواقعيين سان سيمون (1852) وأوغست كونت(1857) وجون ستيوارت ميل (1893) وهو صاحب نظرية الفلسفة الوضعية , وإيميل زولا صاحب نظرية المذهب الطبيعي , ويمثل الجناح الوجوديسارتر , ونظريته في الإلتزام معروفة والواقعيون عامة ينادون بأن الفن للحياة وينكرون نظرية الفن للفن إنكارا شديدا ([13])

          كل هذا الخلط الغريب والمضطرب من المذاهب والنظريات أدت إلى بلبة نقدنا العربي المعاصر، وإلى بعده عن تراثنا النقدي الرفيع، وقد حاولت هذه النظريات الجديدة في النقد التي أقحمت على نقدنا العربي المعاصر إقحاما شديدا أن تتنكر لمنهجنا القديم العربي الأصيل في النقد من جانب، وأن تعمل على إبعاد النقد عن الذاتية وعن منهجه التأثري الأصيل إلى جعله موضوعيا يقوم على قواعد ثابتة من العلم والموضوعية من جانب آخر ([14])

      2-نظرة النقاد والأدباء العرب إلى هذه المناهج والمذاهب:

            انقسم النقاد الأدباء العرب بين المؤيد ورافض لهذه المناهج والمذاهب, فالمؤيدون اعتبروها بمثابة الجديد الذي يجب أن يلج إلى الثقافة العربية , وأنه يجب أن نأخد دون أن ننتظر , فالإنتظار يعني التخلق التأخر عما وصل إليه الغرب من تقدم وتطور , أما الرافضون فقد برروا رفضهم بخوفهم على تراثنا القديم , وأن ولوج هذه النظريات سيسبب الاضطراب ويجلب البلبلة لنقدنا العربي، وأغلب شعرائنا ونقادنا وأدبائنا وكتابنا على أية حال قد تأثروا بمذاهب الغرب تأثرا كبيرا ’ ظهر أثره في هذه البلبلة الأدبية والنقدية التي نعيشها اليوم , والتي جعلت أدبنا المعاصر صورا مشوهة لا صلة لها بتراثنا وثقافتنا و أدبنا و مجتمعنا ونفوسنا بحال من الأحوال ([15])

      وقد انقسم هؤلاء بين ثلاثة اتجاهات هي :

      -         ينادي فريق من نقادنا بالتأييد الكامل لهذه المذاهب , ووجوب صبغ نقدنا العربي المعاصر بصبغتها , ومنهم محمد غنيمي هلال , صاحب كتاب المذخل إلى النقد الأدبي ومحمد خلف الله

      و ينادي فريق آخرون من أدبائنا بالرفض الكامل لهذه المذاهب , ومنهم العقاد ومندور , ووديع فلسطين, وطه حسين , وذهبت ( محمود عبد المنعم خفاجي ) إلى ذالك أيضا في كتابي : دراسات في النقد الأدبي , والنقد العربي الحديث ومذاهبه

      -         وفريق آخرون يقفون في الموقف الوسط , ومنهم السحرتي صاحب كتاب ( شعرنا المعاصر في ضوء النقد الحديث ), و كتاب ( النقد الأدبي من خلال تجاربي ) , وكذالك النويهي ([16])

            إن هذا الانقسام لم يولد سوى فوضى عارمة وسط المصطلح النقدي العربي , كما أدى إلى إهمال الموروث النقدي العربي, وإطاحة به وبإسهامات النقاد القدامى , حتى أن بعض النقاد راحوا يصطنعون نظريات , من خلال برز عجزهم وعدم إدراكهم لغاية التجديد , فالتجديد ليس معناه ابتكار نظريات فقط من أجل محاكاة الغرب، فهذا الفعل لدليل واضح على العجز.

       

       





      • Section 3

        المحاضرة الثالثة النقد الإحيائي

         

        تمهيد:

          تأثر النقد شأنه شأن الأدب بالحركة النهضوية العربية الحديثة التي حدثت بفعل الاحتكاك بين الشرق والغرب,وحركة النهضة أثرت في مجالات الحياة العربية المختلفة وفي هذه المرحلة راح النقد يتأثر بالواقع وما أفرزته النهضة من مستجدات على الساحة الأدبية ونتيجة هذا التأثر حدث تفاعل وتنوع في الساحة النقدية مما تولد عنه تياران في النقد الأدبي:

        التيار الأول: محافظ مدافع عن النقد العربي القديم وقد حاول إحياءه بكثير من الاحتراز والوسائل حتى يبقى حيا.

        أما التيار الثاني: فهو تيار متأثر بالمناهج والفلسفات الغربية دعا إلى التجديد في الأدب والنقد.

        1/- الاتجاه الإحيائي في النقد العربي الحديث:

        الإحياء:

             لغة: أحيا عكس أمات . بث الروح إحياؤها من جديد. أحيا الأرض: أنبتها . أحيا النفس بث الروح فيها

            اصطلاحا: استخدم مصطلح الإحيائية للدلالة على المراحل الأولى من مراحل تطور الأدب العربي الحديث, وهو بعث التراث القديم والاهتمام بضوابطه وقواعده وقد أطلق على هذه المدرسة عدة تسميات الإحيائية وهي مدرسة تعني بالعودة إلى التراث وبث الروح فيه من جديد

        الكلاسيكية: العودة للتراث, كذالك أطلق عليها مصطلح التقليدية : تقليد التراث القديم ,المدرسة المحافظة, المحافظة على القديم

            وتعد النزعة الإحيائية أول خطوة من خطوات النقد في العصر الحديث, وهي مرحلة بعث التراث القديم وإحيائه وإعادته للوجود عن طريق تحقيق المطبوعات وطبعها وتدارسها واستخلاص المبادئ النقدية, وقد تفاعل الأدب إبداعا ونقدا مع سياقات الحياة المختلفة من نظم عقلية وظروف سياسية واجتماعية واستطاع الأدب في مطلع العصر الحديث أن يحقق هذا التفاعل في ظل ما يعرف بالنزعة الإحيائية

        أولا: مدرسة البعث والإحياء:

             يطلق اسم (مدرسة البحث الإحياء) على الحركة الشعرية التي ظهرت أوائل العصر الحديث, والتزم فيها الشعراء النظم على نهج الشعر في عصور ازدهاره, منذ العصر الجاهلي حتى العصر العباسي وهم مجموعة من الشعراء نذكر منهم : البارودي الذي يعد رائد هذه المدرسة ومنهم أيضا أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد محرم وغيرهم ممن ساروا على اتجاههم وتشابهت أساليبهم الفنية والمعنوية , وشكلوا المدرسة الإحيائية , على تفاوت فيما بينهم في القدرات الأدائية وتنوع في همومهم وأغراضهم وتباين بين حظ كل واحد من الثقافة وأخذه بأسباب التجديد والتطور الفني,بحسب اختلاف في البيئات وظروف الحياة والتوين النفسي والاجتماعي والفكري, ومدى تأثر كل واحد منهم بثقافة الغرب ومذاهبه الأدبية ([1])

            وكان هناك جماعة من النقاد رفعوا لواء الأدب والنقد محاولين بعث الأمجاد العربية القديمة , وتخليص الكتابة من شوائب عصر الانحطاط وما انحدر منه من صنعة لفظية وولوج بغريب اللفظ وفساد الأذواق ومن هؤلاء الرواد : الشيخ حسين المرصفي (الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية ) ,حمزة فتح الله (المواهب الفتحية ) فسطاكي الحفصي (منهل الوراد في علم الانتقاء)....وغيرهم من الأدباء الذي انصب اهتمامهم على قراءة التراث العلمي أدبا ونقدا وتحقيقه من خلال الاطلاع على المخطوطات القديمة والترجمة والاستفادة من المجهود الغربي

        ثانيا: مبادئ النقد الإحيائي عند العرب:

         يمكن تلخيصها فيما يلي:

        1- الإطلاع على المخطوطات القديمة وتدارسها مع العناية بطابع المحافظة وتقليد الأصول النقدية التراثية

        2- محاكاة القصيدة القديمة في بنياتها العروضية واللغوية

        3- تكليف الشعراء بالنظم في الأعراض الشعرية القديمة (الرثاء-الغزل-الهجاء....)

        4- الكشف عن المبادئ الجوهرية للشعر القديم , والاقتداء بها عن طريق تكريس المفاهيم النقدية القديمة حول مفهوم الشعر وكذالك النثر

          ومن أجل استجلاء النقد الإحيائي نحاول أن نأخذ منه نموذجا نقديا إحيائيا وهمو الشيخ حسين المرصفي صاحب كتاب ( الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية) الذي يعد باكورة طيبة في هذا الاتجاه فمن هو الشيخ حسين المرصفي ؟ وما مضمون الوسيلة ومناهجها؟

        ثالثا/ الشيخ حسين المرصفي:

            ظهرت بوادر النقد الإحيائي الأدبي,على يدي الشيخ حسين المرصفي الذي يعد أهم شخصية قادت حركة البعث في النقد الأدبي’ واستطاعت عن تبني أصولا نقدية كونت ما يعرف بجيل رواد النقد العربي في العصر الحديث , والشيخ حسين المرصفي يجهل تاريخ ميلاده , وبعض الكتب ترجع ميلاده مابين 1805-1815 توفي سنة 1889 . نشأ في بلدة مرصفا بمصر , وهو شيخ الأدباء في عصر الخديوي إسماعيل , وهو أول أساتذة دار العلوم عند إنشائها كان ضريرا منذ سن الثالثة , تعلم القراءة والكتابة عن طريق البديل بمدرسة العميان ([2])

             وضع كتابه الوسيلة الأدبية وهو عبارة عن محاضرات في الأدب والنقد ألقاها على طلبة السنة الأولى بدار العلوم , قسم كتابه إلى جزأين:

           الجزء الأول : يتكون من 215 ص من الحجم الكبير وقد تمت الطبعة الأولى بمطبعة المدارس الملكية عام 1872 , أما الجزء الثاني من هذا الكتاب فيقع في 703 ص من الحجم الكبير , وقد طبع بمطبعة المدارس المالكية عام 1875 وقد حققها الدكتور عبد العزيز الدسوقي ([3])

            وقد أشار الشيخ حسين المرصفي  في مقدمة الجزء الأول إلى العلوم التي سيتناولها محاولا تعريفها بدقة , كما راح يبين قيمة هذه المعارف ومنهج دراستها ثم تطرق إلى تعريف الأدب وتناول بعده علم المنطق وأشار إلى علم البلاغة ثم انقل إلى فقه اللغة , وبين أقسام اللفظ باعتبار الترادف والتباين وعرج على علم الصرف ثم على النحو ثم ختم هذا القسم بالحديث عن كيفية تحصيل علوم العربية  مبينا أفضل أنواع هذا التحصيل, بينما تطرق في الجزء الثاني إلى فنون البلاغة مخصصا قسما لفن البيان وفصلا لفن المعاني وفصلا آخر لفن البديع ثم انتقل إلى علمي العروض والقوافي وفن الموشح وتحدثت عن الإملاء والإنشاء  و أمثلة لذلك ذاكرا عدة قصائد للشعر من مختلف العصور الأدبية وتطرق المرصفي إلى صناعة الشعر , وختم الجزء الثاني بالحديث عن الرسائل النثرية. ([4])

             كما حاول فيه أن يوازن بين شعر محمود سامي البارودي (1838-1904) وشعر بعض الشعراء الأقدميين، توازن بين قصائدهم التي هي من باب واحد ووزن واحد، وأشار إلى محاسن كل منهم . فكان هذا نوعا من النقد ولعل كتاب *الوسيلة الأدبية * أول كتاب في النقد العربي الحديث يدرس الأدب على أنه فن له خصائصه فيدرس هذه الخصائص ويوضحها في بصر وخصائص([5])

        -مؤلفاته ومنهجه في التأليف: ([6])

        من أهم المؤلفت للمرصفي ثلاثة كتب وهي:

        1- الوسيلة المجلدية في الأدب.

        2- دليل المسترشد في فن الإنشاء فيه 3 مجلدات (لا يزال مخطوطا).

        3- رسالة الكلم الثمان, وهو كتيب صغير في نحو 66 ص.

        ودليل المسترشد مجلدات ثلاثة تتناول مجموعة من العلوم والمعارف فإن جانب حديثه عن الفكر وتقوية العقل واللغة يتكلم عن الإنسان وجسمه وتركيبه ووظائفه , ويستطرد إلى الحديث عن فن الخطابة.

        و في المجلد الثاني يتحدث عن الأغراض التي يحاول المنشئ حسن الصنعة في صياغة العبارة عنها واتقان الكتابة فيها باختيار العبارات الموافقة لأنواعها واللائقة بجزئيتها.

           وقد لاحظ الأستاد محمد عبد الجواد أن المصرفي تناول في كتاب * دليل المسترشد* بعض موضوعات الوسيلة الأدبية بشيء من التفصيل أو الاختصار كما في موضوع العقل وأصناف المعقول...

           وكتاب *رسالة الكلم الثمان* يشبه الكتابة في العلوم السياسية وقد وجهها للجيل الجديد, وتم طبعها في أكتوبر 1881, وكانت البلاد تغلي بالثورة وتموج بتيارات الإصلاح ومالبثت أن اندلعت بعد ذالك الثورة العربية

            هذا هو الإطار العام الذي يمكن أن نفهم عى ضوئه هذه الرسالة التي يتحدث فيها عن : *الأمة* و*الوطن* و*الحكومة* و*العدل* و*الظلم* و*السياسة* و*الحرية* و*التربية*

        -         الوسيلة الأدبية: الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية,وهي من أهم كتب العلامة حسين المرصفي ففي المجلد الأول يحدثنا حديثا نظريا عن العلم , وكيف أن صفة واحدة لها تعلقات كثير كل جملة منها متناسبة بوحدة موضوع وغاية ورسم, ومن هنا تعددت العلوم المدونة, وميزت بالأسماء , وهي قسمان : عقلية براهينها من جهة العقل. ونقلية :دلائلها من جهة النقل([7])

        واللغة عنده : " علم يبين صور الألفاظ وتعيينها للأشياء التي يفهمها العالم بوضعها لها"([8])

        أما الإنشاء : علم يبين كيفية تأليف الخطب ورسائل المخاطبات وما أشبه ذالك ويسمى فن الكتابة والنثر وصاحبه الكاتب و الناثر.([9])

            وقد اهتم أيضا في بداية المجلد بتحديد معنى كلمة الأدب, فهي تعني عنه أدب القول وأدب النفس. فكتب تمهيدا أكد فيه" أن الأدب معرفة الأحوال التي يكون فيها الإنسان المتخلف بها محبوبا عند أولي الألباب الذين هم أمناء الله على اهل أرضه من القول في موضعه المناسب له , فإن لكل قول موضعا يخصه بحيث يكون وضع غيره فيه خروجا عن الأدب"([10])

           والواضح أن المرصفي يقصد بظاهر هذا القول تعريف الأخلاق وأدب النفس وإن كان من الممكن أن ينطبق هذا القول أيضا على التجربة الأدبية بمعناها الاصطلاحي الخاص فهذا المعيار الذي وضعه للأخلاق يمكن أن يشمل الأدب ([11])

            على أن المرصفي لم يترك هذا الأمر للاجتهاد الخاص فذكر بعض التفصيلات حول هذا المعيار  وذكر من بين هذه التفصيلات إذا وضع الكلام في موضعه المناسب وروى أنه "صناعة من الصناعات , يجود بدقة معناه , وملاحة لفظه و إحكام بنائه ويردأ بخلاف ذالك , ولكنه متغير الأمر الحال بتغير العوائد تغييرا عظيما"([12])

           وقد نثر في صفحات المجلد الثاني نظرات ذكية عميقة في النقد الأدبي بنوعية النظري والتطبيقي فإنه حول هذا المجلد إلى سياحة عميقة هدفها مواجهة الفص الأدبي وتذوقه وبذالك أسهم في تغيير الذوق والحساسية الفنية وكون مدرسة أدبية كان لها الفضل في بعث النقد العربي الحديث, بل لقد ألهم الرواد في مجال الإبداع الفني , فلا شك أنه من مفجري طاقة البارودي الشعرية , ومن الذين سدحوا طريقه , والبارودي كما نعرف رائد في البعث الشعري .

        خلاصة:

            يقول الدسوقي عن حسين المرصفي بشأن حكمته وعلمه ودقة تحليله وعرضه للنصوص :"وقد استرعى انتباهي وأنا أقرأ كتاب الوسيلة الأدبية "وذلك الأسلوب العلمي الذي كان يستخدمه المرصفي في كل أجزاء الكتاب وقدرته على الفحص والتحقيق والتدقيق والتأمل العميق والوصول بعد ذالك إلى نتائج واضحة ومحددة , لا تضيع في خضم الاستطرادات والنقول ([13]).

         

         

         

         

         

         




        • Section 4

          المحاضرة الرابعة إرهاصات التجديد في النقد الحديث

           

          مقدمة:

          البدء بالحديث عن التجديد هو عودة للتقليد، وما قيل في كتاب الوسيلة الأدبية للشيخ حسين المرصفي صورة عن إرادة المسايرة خرجت من رحم التراث القديم، فيحمل الانتقاء والتصويب في حد ذاته عن التراث أرادة العودة عن بعض النماذج التراثية-ولكن ليس مطلقا- لأن المدرسة في حد ذاتها لم تهدف إلى التجديد ولكن هدفها البعث والإحياء، انطلاقا من التراث، ونفس النظرة إذا تم قلبها أفقيا تصبح وعيا بضرورة التجديد بالتركيز على النص الإبداعي في حد ذاته.

          1-إرهاصات التجديد عند العرب:

          إن أولى إرهاصات التجديد في النقد العربي الحديث هي تلك النظرة المختلفة التي انتقلت من النسج على منوال العباسيين إلى ضرورة الاطلاع على ثقافة الغرب والآخر الذي أصبح يتفوق وبجدارة على العالم العربي، فكانت المقالات في تلك الفترة تنشر الوعي بضرورة هذا الانفتاح والاتصال بثقافة الآخر وفي المقابل الانفصال عن الطابع المرجعي " والمتتبع للكتابات النقدية يجد أن إرهاصات الانفتاح على آداب الأمم الأوروبية بدأت تتسلل وتأخذ طريقها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عبر مقالات متناثرة في الصحف والمجلات بأقلام، يعقوب صروف وقسطاكي الحمصي، ونجيب حداد، وإبراهيم اليازجي وغيرهم".[1]

           والنقد التجديدي هو عبارة عن نظريات جديدة أقحمت على نقدنا العربي الحديث إقحاما شديدا محاولة التنكر لمنهجنا النقدي العربي الأصيل وإبعاد النقد عن الذاتية والتأثرية وجعله موضوعيا يقوم على قواعد ثابتة من العلم والموضوعية.(أي محاولة هدم القواعد الكلاسيكية في النقد أو النظريات الموروثة في النقد).

          فصار النقاد الغرب منتهى التركيز عند العرب انبهارا بهم من جهة وقصد الأخذ عنهم من جهة أخرى، فيكون الفرق بين الإحياء والتجديد نظرة الأولى باتجاه الماضي والثانية باتجاه الغرب من أجل تغيير صورة النقد، إذ صار زعماء الإحياء صورا جامدة مطابقة للقديم مفرغة من روحها غير معبرة عن أصحابها ولا عصرها، لأن الأمر متعلق بالحفظ ثم النسج الذي ينم عن احتواء تام لهذا الماضي " ففي المقتطف ديسمبر سنة 1887 بدأ يعقوب صروف يدعو إلى الاهتمام بالنقد، وتخصيص حيز كبير لقضاياه ومشكلاته، والعناية بنقد الكتب التي تصدر...وأشار إلى منابعه الثقافية فذكر أن من أشهر النقاد عند الإنجليز ديردون وبوب وكولوريدج وهازلت وبراون وماكولي.. وعند الفرنسيين فولتير وسانت بيف وتين وعند الألمان لسنج وجوته وشليغل وكانت، ولعل هذه الأسماء التي رددها صروف هي التي شغلت وتشغل النقد الحديث".[2]

          2-المذاهب والمدارس النقدية الأدبية الغربية وتأثيرها في الأدب العربي الحديث ونقده:

          أ-مذهب التطور: مذهب التطور هو مذهب فلسفي عند داروين، قام سبنسر انجليزي بتطبيقه على الأخلاق وعلم النفس وعلم الاجتماع، وأخذ برونتيير يطبقه على الأدب إذ كتب عن تطور النقد وتطور الشعر الغنائي والمسرح، ورأى بأن الوعظ الديني في القرن17م قد تحول إلى شعر غنائي رقيق هو الشعر الرومانتيكي في القرن19م.

          ب-مدرسة التحليل النفسي: قاد هذه المدرسة فرويد طور هذه المدرسة بكترف الروسي عام1967م إلى علم النفس التجريبي، وقد كان لعلم النفس صدى قوي ومؤثر وعميق في النقد حتى غدت الفرويدية من أقوى العوامل في التوجيه الأدبي والفكري في أوروبا، من بين من مثل النقد النفسي في فرنسا شارل مورون وغاستون باشلار. أما عند العرب فعز الدين اسماعيل في كتابه التفسير النفسي للأدب.

          ج-مذهب الفلسفة الجمالية: دخلت الفلسفة الجمالية إلى النقد من أوسع أبوابه وصلة فلسفة الجمال بالفن والأدب بمثابة صلة المنطق بالرياضيات. وقد امتدت فلسفة الجمال إلى الفنون الأدبية، ولم تعد القيمة الفنية للعمل الأدبي تقاس بمقياس خارجي أو بمدى تحقيق غاية أخلاقية أو هدف. وإنما صار الحكم على الأثر الادبي من حيث قيمته الفنية.من رواد هذا المذهب الغربيين:كانط الألماني وكروتشه الإيطالي. ومن النقاد العرب محمد مندور في كتابه: منهج البحث في الأدب.

          د-الفلسفة الواقعية: تهتم بالمضمون وبأهداف الفن ووظيفته وصلته بعصره وبالجماهير التي يخاطبها، وقد نشأ عن الفلسفة الواقعية (الفلسفة المادية: والفلسفة الوجودية)،الفلسفة المادية' الذات والتصورات والأفكار) والفلسفة الوجودية: الواقع والوجود). تركز الفلسفة الواقعية في الأدب على دور الأديب في التعبير عن أحداث المجتمع وقضاياه وظروفه الاجتماعية والسياسية. من فلاستها: أفلاطون وأرسطو ومن الشعراء العرب في الواقعية: بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي  ومن النقاد: محمد غنيمي هلال وجورج طرابيشي.

          3-تأثر النقد العربي الحديث بالرومانسية الغربية:

            أ-تعريف الرومانسية: (مفهوم الرومانسية موجود في محاضرة النص الأدبي الحديث).

          ب-تأثير الرومانسية في النقد العربي الحديث: كان للرومانسية نتائج بعيدة الأثر في الأدب العربي الحديث ونقده إذ صار الرومانتيكيون ينظرون إلى الأدب على أنه من نتاج الفرد وعبقريته لا أراء وأفكار تصب في قوالب مصنوعة، وقد تأثر النقد هو الآخر بالحركة الرومانسية فأصبحت مهمته تفسير النصوص تفسيرا علميا على أنه تجربة حية للفرد في بيئة خاصة بعد أن كانت وظيفة النقد الكلاسيكي بيان مدى اتباع الكاتب للقواعد المفروضة عليه وقياس براعته بمقدار خضوعه لها. وبهذا لم يعد لقواعد الذوق السليم مكان في الأدب الجديد، لأن الأدب يتغير من فرد لفرد ومن أمة لأمة.




          • Section 5

            المحاضرة الخامسة جماعة الديوان

            مقدمة:

             كثيرا ما ترد المدرسة والمذهب والاتجاه...في النقد العربي الحديث لتحيل إلى نفس التسمية وتفسير الأمر متعلق بتفكير الناقد والأديب الحديث، إذ كانت هذه الدلالات متساوية لا فرق بينها من حيث الوضع، وهذا ما يوضحه المعجم المفصل في الأدب عند تحديده لدلالة المذاهب الأدبية "لم يفرق نقاد العصر الحديث العربي بين المذهب والمدرسة والاتجاه، ورأوا أنها نزعات وتيارات تعالج مظاهر الشكل ومضامين المعنى، فمنها ما يميل إلى التجديد، ومنها ما يرفضه ويتمسك بأهداب الماضي، ومنها ما يقيس موضوعاته على القضايا المعاصرة، وبعض هذه المذاهب مادي وبعضها فني، وبعضها نفسي".[1]

            وفي السنوات العشر الأولى من القرن العشرين وبعد أن ظهرت طلائع الحركة النقدية الأدبية متمثلة في روادها الأوائل البارودي شوقي وحافظ وعبد الله فكري وعلي مبارك وغيرهم، وبعد أن أحدثت هذه الحركة الجديدة من تغيير في الشعر والنثر في الموضوعات والأساليب ظهر في النقد تيار قوي يدفع هذا الاتجاه ويدعمه ويدعو له، مثله العقاد شكري والمازني.

            1-نشأة المدرسة ومفهومها :

             ظهرت "مدرسة الديوان في العقد الثاني من القرن العشرين، وهي تعد من المدارس الشعرية الجديدة بعد مدرسة البارودي وشوقي وحافظ ومطران، تزعمت حركة التجديد في الشعر، وألحّت في الدعوة إليه.قام أعلامها الثلاثة شكري والعقاد والمازني بدور كبير في خدمة النهضة الشعرية وفي نشر حركة التجديد في الشعر العربي الحديث، وتسمى مدرسة شعراء الديوان نسبة إلى هذا الكتاب النقدي المشهور(الديوان)، الذي ألفه اثنان من المدرسة، وهما العقاد والمازني  وأعلنا في مقدمته أنه سيكون في عشرة أجزاء، ولكن لم يصدر منه غير جزئين صغيرين عام 1921، ومن هنا تبدو هذه التسمية غير دقيقة لأن عبد الرحمن شكري كان فيه منقودا لا ناقدا، وقد أحدث هذا الكتاب الصغير ضجة كبيرة في الجو الأدبي والشعري في مصر في والعالم العربي، وكان له تأثيره على شوقي والمنفلوطي، وغيّر من نظرية عمود الشعر القديمة، وعلى الرغم من أن عبد الرحمن شكري فارق زميليه وتركهما وحدهما في الميدان. إلاّ أنّه يعدّ الرائد الأول لهذه المدرسة، وإمامها الذي اقتدت به، وهؤلاء الثلاثة ثقافتهم انجليزية ووجهتهم هي الأدب.[2]

            2-الأسس النقدية لمدرسة الديوان[3]:

            -الاهتمام بالشعر وربطه بالعاطفة والخيال وبأنه صورة عكسية لواقع الحياة.

            -رفض التأسيس على منوال القدماء والاحتذاء بحذوهم وذلك لا ينفي فضلهم في أدبهم ولكن ينفي مجاراتهم في كل ما صنعوه.

            -التصدي للإفراط في توظيف الصور البيانية في الشعر كالتشبيه.

            -التركيز على الوحدة العضوية للقصيدة.

            -الوزن ضرورة شعرية لأنه موسيقى بنائه الفني، أما القافية إن جاءت على صورة رتيبة فهي من  بقايا الفن البدائي.

            -غاية الشعر هي توفير اللذة النفسية والعقلية لأن الشعر إذا لم يحدث المتعة النفسية والعقلية فقد خلا فعله وضاع. يقول عبد الرحمان شكري: "الغاية من الشعر هي اللذة التي يستشعرها ذوو العقول والقلوب الكبيرة، هي تلك اللذة التي تكمن في كل فن من الفنون الجميلة الرفيعة"

            -التصدي لشعر المناسبات لأنه خالف مفهوم الشعر عند الغربيين وفي العصر الحديث. ويعتبر شكري أن شعر المناسبات "لا ينظم إلا موجات انفعال عاطفي فتغلى أساليب الشعر في ذهنه، وتتضارب العواطف في قلبه، أما في غير هذه النوبات فالشعر الذي يصنعه يأتي فاتر العاطفة قليل الطلاوة والتأثير".

            -لغة الشعر لغة سامية . يقول عبد القادر المازني:" لا تكون لغة الشعر كلغة الناس. بل لغة تصلح لهذه الأفواه السماوية التي تجرج منها..." وطالبوا بإغفال كل لفظ وضيع مضحك.

             

             

             

             

             



            [1]  محمد التونجي، المعجم المفصل في الأدب، ص777.

            [2]  مسعد بن عيد العطوي، جماعة الديوان: تعريفها وخصائصها وشعراؤها، تاريخ الإضافة: 20/7/2016 ، شبكة الألوكة، تاريخ الزيارة 25/10/2021، على الرابط: https://www.alukah.net/sharia/0/105544

            [3]  المرجع نفسه.


            • Section 6

              المحاضرة السادسة: جماعة أبولو

               

              تمهيد:

              ارتبط النقد التجديدي بظهور العديد من المدارس الأدبية والنقدية والتي دعت إلى التجديد والإبداع في الإنتاج الشعري شكلا ومضمونا، ومن هذه المدارس مدرسة أبولو. فكانت مدرسة أبولو ثاني المدارس بعد انتهاء جماعة الديوان وتفككها، وارتباط أبولو باسم الجماعة دون المدرسة تفسيره يتشابه مع التفسير الذي ارتبط بجماعة الديوان، ذلك أن الأمر متعلق في الجماعة بالاختلاف بين أعضائها، وهذا ما شهدته مدرسة الديوان وكذلك أبولو، أما المدرسة فالأمر يتعلق فيها بتوحيد هذه المبادئ وعدم الاختلاف حولها، فتلك الاختلافات التي ظلت رفيقة هذه الجماعات من بدايتها حتى زوالها هو السبب الذي جعلها تسمى جماعة بدل مدرسة.

              1- جماعة أبولو النشأة والمفهوم:

               ظهرت هذه المدرسة سنة1932 شهر سبتمبر على يد الشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي في القاهرة. وأبولو تعني رب الشعر عند الإغريق وهي مدرسة أدبية ضمت طائفة من الأدباء والنقاد والشعراء، وذاع صيتها في مختلف أنحاء العالم العربي أكدت على الإبداع وتنمية الخيال والتجديد الذي يجب أن يكون في مواجهة العصر ونادت بمبدأ الفن للفن والفن للحياة، اختار أعضاؤها الشاعر أحمد شوقي رئيسا لها ثم الشاعر خليل مطران، وقد حرصت على الإفادة من الأدبين العربي والغربي حيث أخذت منهما الأخيلة والمعاني والصور، كما راعت كل مناهج الشعر ومذاهبه حيث جمعت بين الواقعية والرمزية والرومنتيكية والكلاسيكية[1]، ولذلك فقدت المنهج المحدد وإن كان الاتجاه الغالب عليها هو الاتجاه الرومانسي من أعضائها: حسن كامل الصيرفي/إبراهيم ناجي/محمود أبو الوفا/علي محمود طه/أحمد الشايب/كامل الكيلاني/علي العناني/أحمد ضيف/زكي مبارك/عبد العزيز عتيق وغيرهم.

               

              2-المعالم النقدية لمدرسة أبولو[2]: بما أن مدرسة أبولو غلبت عليها النزعة الرومانسية فقد تبنت نفس مبادئها التي منها:

              -الثورة على التقليد والدعوة إلى الأصالة والفطرة الشعرية والعاطفة الصادقة.

              -الدعوة إلى التجديد (الصور والأفكار) وتطويع اللغة والأساليب حتى ينهض الشعر العربي من كبوته وقيوده التي طبقت عليه.

              -تجنب التشبيهات المبتذلة التي كانت عند القدماء.

              -توظيف الصور الجميلة والواقعية والرمزية بغية التأثير في القراء.

              -التحرر من قيود الوزن والقافية حيث دعت إلى التجديد في الموسيقى وتنوع القوافي.

              -رفض شعر المناسبات والدعوة إلى تنظيم الشعري القصصي والروائي والأقصوصة الشعرية.

              -الرجوع إلى الذات والاتجاه إلى الشعر الغنائي العاطفي والشعر الصوفي ويظهر ذلك في شعر الشابي وحسن كامل الصيرفي والتيجاني بشير، حيث نجد لوعة الحرمان والأسى والحزن والكآبة والحديث عن العدم والفناء والموت وكذا القلق والحيرة، وهنا تأثروا بشعراء الغرب ككيتس الانجليزي واسكندر ديماس الفرنسي.

              -ظهور الحب العذري الصافي الذي يظهر فيه أثر الشوق والحرمان والعذاب والألم الدفين فالحب هو جمال الروح وهذا اللون ظهر في اسبانيا وكان له أثره على الشعراء العرب في العصر الحديث.

              -التغني بمظاهر الطبيعة والريف والعناية بالوحدة العضوية والوحدة العضوية أن تكون القصيدة عملا متكاملا وبنية حية تتفاعل عناصرها جميعا كما تتفاعل الأعضاء المختلفة في الجسم.

              ومجمل القول، يتعلق الأمر في جماعة الديوان بالحديث عن أكبر التجمعات الأدبية والنقدية التي ظهرت في العصر الحديث، والتي كان لزاما عليها الانطلاق من النتائج التي وصلت إليها مدرسة الديوان وتزيد عليها، "وهذه الجماعة تنتمي للتيار الرومنسي المتشائم الذي صادف الظروف الصعبة التي عاشها العالمين العربي والغربي، فانفتحت الجماعة على العالم الغربي بشكل أوسع احتوى فيه ماضي وحاضر العالم الغربي، تكون الإنسانية وسيطا بينهم، فإلى جانب القضايا التي اقترحتها مدرسة الديوان، من صدق وطبع وتجربة صادقة، أضافوا القول بعنوان للقصيدة يوجز الكلام حولها ويحتوي دلالاتها، وكذلك التخلي عن شرط القافية والأخذ بالشعر المرسل واستشراف القول بشروط الشعر الحر".[3]

              ومع الجماعة تم رسم صورة جديدة للغة العربية وكذا صياغتها، وكله أبعد اللغة العربية عندهم عن معجمها القديم واستحدث الرمز بما هو آلية جديدة في التعبير طالت المرأة والطبيعة والحب.

               

               

               

               

               

               

               



              [1]     محمد التونجي، المعجم المفصل في الأدب، ص319.

              [2] ينظر سفيق البقاعي وسامي هاشم، المدارس والأنواع الأدبية، منشورات المكتبة العصرية-صيدا بيروت، 1979، ص15 وما بعدها. ويراجع: أحمد زكي أبوشادي، قضايا الشعر المعاصر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012، ص 44 وما بعدها.

              [3]  بدوي طبانة، التيارات المعاصرة في النقد الأدبي، دار المريخ للنشر، الرياض، ط3، 1983، ص269.


              • Section 7

                المحاضرة السابعة: جماعة الرابطة القلمية

                 

                مقدمة:

                الرابطة القلمية هي أحد أطراف أدب المهجر الذي اتخذ من موطن الاغتراب قطبا لإحداث التجديد في الأدب العربي، في الشعر والنثر معا، ظهرت كلون أدبي جديد في بداية القرن العشرين أو قبله بقليل، والتي يرجع سبب ظهورها إلى الأدباء العرب الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية منددين بالتقليد داعين إلى الابتكار والتجديد.

                 

                1-المفهوم النشأة والتطور:

                تعد مدرسة الرابطة القلمية مدرسة التجديد في الأدب العربي الحديث إطلاقا في الشعر وفي النثر على السواء، ظهرت تباشيرها الأولى عام1913م على صفحات مجلة (الفنون) التي كان يصدرها الشاعر نسيب عريضة غير أن هذه المجلة ترددت بين الصدور والتوقف إلى أن توقفت نهائيا 1918م، كان أعضاؤها آنذاك ثلاثة كتاب وشعراء هم: نسيب عريضة، جبران خليل جبران، أمين الريحاني ثم انضم إليها ميخائيل نعيمة عام1916م .بعد أن تم دراسته في روسيا وذهب لكي يتابع الدراسة في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية. وقد ظهرت المدرسة بشكل متكامل في شهر أفريل 1920م في مدينة نيويورك في جريدة السائح التي كان يصدرها عبد المسيح حداد في منزله، واتخذت منها سبيلا لنشر رسالتها في تجديد الأدب العربي  وقد ترأسها جبران خليل جبران من أعضائها: ميخائيل نعيمة/نسيب عريضة/رشيد أيوب/ووليم كاتسفليس/وديع باحوط/عبد المسيح حداد/إلياس عطا الله/إيليا أبو ماضي وغيرهم.[1]

                لم يكن أعضاء الرابطة القلمية متساوين في أدبهم وإنما الذين برزوا فيها وقدروا على العطاء الجديد خمسة: هم ميخائيل نعيمة/جبران خليل جبران/إيليا أبو ماضي/نسيب عريضة/ رشيد أيوب والباقون أعوانا وأنصارا للرابطة أكثر منهم أدباء منتجين ومبدعين. فهناك من كتب مقالا فقط. وهناك من كان خطيبا. وهناك من لم يكتب شيئا، لكن الشيء الوحيد الذي جمع هذه الفئة الصغيرة هو الروح الإنسانية التي ينطلق منها أدبهم.

                2-الأسس الأدبية والنقدية للرابطة القلمية:

                -الثورة على القديم والدعوة إلى التجديد من حيث الشكل والمضمون(التنظيم على نمط الشعر المرسل والتحرر من قيود الوزن والقافية).

                -ظهور الموشحات والأزجال عندهم والتي كانت منتشرة في أمريكا قبل ذهابهم إلى هناك.

                -التقيد بالوحدة العضوية.

                -رفض استخدام الألفاظ الجاهلية المغرقة في القدم التي توحي بجرس صوتها أو بطبيعة تركيبها أو بسبب البعد بيننا وبينها والتي تدل على تكلف الشاعر كلفظة السجنجل والعقنقل وقد أعلن خليل مطران الثورة على هذا النوع من الألفاظ يقول:

                لن ترجع العربية الفصحى إلى***ما كان منها في الزمان الأقدم

                -التركيز على سهولة الألفاظ والعبارات وجمالها ورشاقتها.

                -ظهور تيار الرومانسية من خلال التركيز على الروح والرقة والعواطف(الجانب الوجداني).

                -ظهور الشعر الملحمي والمسرحي كملحمة (على بساط الريح) لفوزي معلوف.

                -الحرية في الإنتاج الأدبي(شعرا ونثرا) والحرية من آثار المجتمع الأمريكي إذ نصادف تجسيد كل من تيار الواقعية والكلاسيكية والطبيعية...وغيرها.

                -التأمل في حقائق الكون في الحياة والموت والفناء ومن التأمل الحيرة والخوف.

                -ظهور الشعر القصصي إذ تم اتخاذ القصة الشعرية وسيلة للتعبير في قصائدهم، ومن هنا كانت القصة الشعرية لونا بلاغيا جديدا في الأداء الشعري عند أدباء المهجر.

                -التركيز على الجانب الإنساني (النزعة الانسانية)(الرحمة/المساواة/المحبة/الإخاء)، حيث نجد في إنتاجهم البحث عن مجتمع أفضل مجتمع تسوده الأخلاق والمبادئ والمثل العليا.

                -التغني بالطبيعة والتي لم تعد مجرد منظر نشاهده ونتغنى بجماله بل أصبحت الطبيعة تحس وتحكي مع الشاعر.

                -ظهور نزعة الحنين إلى الوطن والشعور بالغربة في أشعارهم وكذا الحديث عن الحرب وويلاتها مثلما نجد في إنتاج ميخائيل نعيمة.

                مواطن التجديد عند الرابطة القلمية:

                يقول ميخائيل نعيمة في مفهومه للغربلة:".. أجل إن مهنة الناقد الغربلة، لكنها ليست غربلة الناس، بل غربلة ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول، والميول هو ما تعودنا أن ندعوه أدبا، فمهنة الناقد، إذن، هي غربلة الآثار الأدبية، لا غربلة أصحابها، وإذا كان من الكتاب أو الشعراء من لا يفصل بين آثاره الأدبية التي يجعلها تراثا للجميع وبين فرديته التي لا تتعداه ودائرة محصورة من أقربائه وأصحابه فذاك الكاتب أو ذاك الشاعر لم ينضج بعد، وليس أهلا لأن يسمى كاتبا أو شاعرا ، كذلك الناقد الذي لا يميز بين شخصية المنقود وبين آثاره الكتابية ليس أهلا لأن يكون من حاملي الغربال أو الدائنين بدينه".[2]

                قد لجماعة الرابطة القلمية إنجاز كتاب عبر عن آرائهم النقدية التي جمعت خلاصة لمقالاتهم التي كتبت في المجلات ، هذا الكتاب سمي الغربال ونسب إلى كاتبه ميخائيل نعيمة، وتتلخص الآراء الجديدة التي قالوا بها في طرقهم للجوانب الفلسفية في كتاباتهم، وهو ما يثبت تأثرهم بالجانب الفلسفي، كما أنهم يعدون اللغة رموزا في الدرجة الثانية إذا ما قورنت بالمضمون الذي ينتظر من الإبداع، اشتركت مع باقي الجماعات في معاداة الاتجاه التقليدي، استحداثهم لمفهوم الغربلة التي يتميز من خلالها كل ناقد عن غيره، فتصبح مهمة النقد مهمة مميزة إذ يجب أن تتوفر في الناقد مجموعة صفات، والحكم بالفشل على النقد الذي ينطلق من مبادئ وجدت قبلا.

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                 

                المحاضرة الثامنة: النقد التاريخي:

                 

                مقدمة: يعتبر المنهج التاريخي من المناهج النقدية السياقية التي يستعين بها الناقد في دراسته للأعمال الأدبية، وهو يركز على العلاقة المتينة بين الأدب والتاريخ.

                 

                1-تعريف المنهج التاريخي: المنهج التاريخي هو منهج نقدي يهتم فيه الأديب بدراسة التاريخ، وذلك بدراسة الماضي وأحداثه. يظهر في المنهج التاريخي تأثر أعمال الأديب وإنتاجه الأدبي بأحداث عصره وقضاياه ويترتب على ذلك النظر إلى النص الأدبي على أنه حدث تاريخي من أحداث العصر وشاهد من شواهده وعليه لا يدرس النص الأدبي بعيدا عن صاحبه وعن الإطار الزمني الذي شهد مولده والبيئة التي تربى فيها. من رواد هذا الاتجاه: سانت بيف/تين هيبولت/فرديناند برونتيير/غوستاف لانسون.

                 

                2- نشأة المنهج التاريخي: ظهر المنهج التاريخي في فرنسا في القرن 19م. وقد بدأ مع الناقد الفرنسي سانت بيف(1804-1869) عندما دعا إلى دراسة الأدباء دراسة علمية تكشف عن صلتهم بعصورهم وأوطانهم والوسط الثقافي والاجتماعي الذي يعيشون، وهو أول من دعا إلى تأسيس تاريخ طبيعي للأدب، وقد تأثر بسانت بيف بعض النقاد الغربيين منهم هيبولت تين(1828-1893) الذي رأى بأن ما ينتجه العقل البشري مرده إلى ناحيتين هما: شخصية المبدع وعلاقة المبدع بعصره ولم يهتم بالناحية الأولى واهتم بالناحية الثانية وهي علاقة المبدع بعصره وبني جنسه وأرجع هذا العنصر إلى ثلاثة نقاط هي: الجنس البيئة وتأثير الماضي على الحاضر.

                 

                حذا حذو تين الناقد الفرنسي برونتيير فرديناند (1849-1906)الذي دعا إلى تطبيق نظرية داروين في النشوء والارتقاء على الأجناس الأدبية والتي يرى أنها لم تنشأ بطريق الصدفة وإنما تطورت عن فنون قديمة واستدل على ذلك بوجود تشابه كبير بين الفنون الأدبية القديمة والفنون الأدبية الحديثة كالتشابه الذي بين القصة والحكاية الشعبية والتشابه الذي بين الملحمة والمسرحية.

                 

                ويعد الناقد غوستاف لانسون (1857-1934) المؤسس الحقيقي للمنهج التاريخي الذي أرسى قواعده بجامعة السربون بفرنسا. ومن أهم منجزات لانسون أنه جمع بين قواعد البحث العلمي ومتطلبات الذوق وبذلك يكون تعرض لكتابة تاريخ طبيعي للأدب.

                 

                3-المنهج التاريخي في النقد العربي القديم: لعل ما صنعه ابن سلام الجمحي في كتابه(طبقات فحول الشعراء) يعد مثالا مهما للرؤية التاريخية النقدية التي تقيس الأدب في ضوء عوامله التاريخية التي أثرت فيه وطبعته ببصماتها. فقد خصص مباحث منه لشعراء القرى العربية وأخرى لشعراء المدينة وغيرها، وهو يوحي بأثر البيئة في كل طائفة وتميزها بالاستقلال وكذلك ما نجده في كتاب الوساطة للقاضي الجرجاني الذي حكم على شعر عدي بن الرقاع بالسلاسة وأنه أسلس من شعر الفرزدق لأنه لزم التحضر وابتعد عن جفاء الأعراب. وهناك العديد من الكتب التراثية العربية جعلت البيئة والعرق رمزا للمشاهدة النقدية وذلك طرف من أطراف الرؤية التاريخية في النقد.

                 

                4-المنهج التاريخي في النقد العربي الحديث:

                 

                -طه حسين في كتابيه "مع المتنبي"و "ذكرى أبي العلاء".

                 

                -محمد مندور في كتابيه: "منهج البحث في الأدب" "الأدب ومذاهبه".

                 

                -عباس محمود العقاد في"شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي".

                 

                 

                 



                [1]  ينظر محمد التونجي، المعجم المفصل في الأدب، ص71-72.

                [2]  ميخائيل نعيمة، نعيمة، الغربال، دار نوفل، بيروت، لبنان، ط15، 1991، ص13.


                • Section 9

                  المحاضرة التاسعة النقد الاجتماعي

                   

                  تمهيد:

                  أطلق العلماء الاجتماعيون على القرن الثامن عشر الأوروبي اسم قرن النقد، وقد ارتبط هذا النقد بحركة دينية وفلسفية شاملة ابتدأت في إنجلترا وفرنسا بتكسير الشكل التقليدي للمعرفة الفلسفية أي الشكل الميتافيزيقي وهو يرفع شعار محاربة اللاهوت والخرافات التي تكبل تفكير الإنسان الأوروبي وتقيد عقله، ونادت بإعطاء الحرية للعقل ونقد شامل لكل الأشياء والظواهر والمؤسسات والمفاهيم، لإخضاع هذه الموضوعات لمحك العقل وبالتالي الخروج بأوروبا من ظلام الجمود والظلم والأساطير إلى أنوار العقل والتقدم والحرية.[1]

                  تستعمل كلمة نقد اصطلاحياً في “معجم لالاند” لفحص مبدأ أو الظاهرة للحكم عليه حكماً تقويمياً تقديرياً، لذلك يطلق مفهوم العقل النقدي على الفكر الذي لا يأخذ بأيّ إقرار دون التساؤل أولاً عن قيمة هذا الإقرار سواء من حيث المضمون أو الأصل. ويطلق النقد إما على اعتراض وإما على استقباح يدور حول نقطة خاصة، وإما على دراسة إجمالية ترمي إلى دحض أو إدانة عمل ما.[2]

                  ويمكن اعتبار النقد مجرد وسيلة وليس هدفاً لوسيلة توجيهية “مع” أو “ضد” وربما بينهما، فهو أحياناً يتضمن الرفض وأحياناً أخرى يشير إلى المعرفة الإيجابية للحدود. فهناك من يذهب إلى القول بأن النقد خروج المزيف من الأصيل، وهناك من يذهب إلى أن النقد هو توجيه السهام لنقاط الضعف، وهناك من يحاول أن يستخدم النقد كبنية أساسية لبناء صرح فكري أساسه التخلص من الأفكار الزائفة والضعيفة.[3]

                  وفي النهاية، لا نقصد بممارسة فعل النقد التجريح ولا السباب ولا التنقيص من القيمة الإنسانية أو غيرها، بل تجسيد حرية الفكر وحرية النقد. والنقد الحقيقي هو الذي يغوص في المعاني ويفككها، ويبحث عن يقين يستطيع من خلال إدراك حقيقة الأشياء والمعاني بموضوعية بعيداً ع الذاتية.[4]

                   

                  يؤكد لنا تاريخ التنظير السوسيولوجي أن الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع، ظهرت كرد فعل طبيعي ومنطقي تجاه الأزمات والمشكلات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، التي كانت ومازالت تعتري الواقع الاجتماعي بكل تجلياته.

                  إن الدراسة التحليلية لحركات النقد الاجتماعي التي ظهرت ضمن إطار الاتجاهات النقدية عموماً، تكشف لنا عن وجود مستويين أساسيين لهذا النقد، ففي المستوى الأول نجد أن النقد الاجتماعي يعبّر عن احتجاج اجتماعي شامل يستهدف التأكيد على ضرورة التغيير الأساسي والجوهري للأنماط الحضارية القائمة، إذ يبدأ هذا النقد بالتحليل السلبي لعيوب السياق الاجتماعي القائم ونقائضه، من خلال العمل على تجسيد حركة احتجاج تنظر إلى الواقع كشيء يمكن إعادة تشكيله وتغييره، أي امتلاكها  لتصور مثالي لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، بحيث يصبح هذا التصوّر بدوره الإطار المرجعي الأولي لتنفيذ ما هو قائم، فيؤكد هذا المستوى على ضرورة امتلاك الحركة النقدية لقوى اجتماعية تصبح هي الفاعل الثوري (الراديكالي) الذي ينتقل بالمجتمع ممّا هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، من خلال التأكيد على اكتمال حركة التحول الاجتماعي والحضاري.[5]

                  أما المستوى الثاني للنقد الاجتماعي فيمكن اعتباره أقل راديكالية وشمولاً لأنه يتبنى النقد الثقافي والتنويري فقط، أي أنه يهدف إلى عملية التغيير الثقافي والتنويري لتشكيل توجهات ثقافية وقيمية جديدة تحكم التفاعل الكائن في الواقع الاجتماعي والحضاري، ويظهر هذا المستوى من النقد الاجتماعي حينما تنحدر الحركات السياسية الراديكالية وتقتصر بأهدافها على النقد الذاتي والثقافي للمجتمع، أو عندما لا يكون الفاعل الثوري للمجتمع مهيأً لتنفيذ مهام النقد ومتطلباته. هذا النقد قد يصبح هو المستوى المسموح به حينما يثبت الواقع ويؤكد صلابته أمام الانتقادات الموجه إليه، حيث يسعى هذا الواقع إلى استيعاب مضمون النقد بما يدعم بناءه وصلابته ويفقد النقد مبرره ومشروعيته. ويبرز هذا المستوى النقدي في المراحل التاريخية التي يكون فيها الواقع الاجتماعي قوياً، قادراً على استيعاب تناقضاته مؤكداً على وحدته وتكامله، أو حينما يقتصر النقد الاجتماعي على فضح وتفنيد ما هو قائم، وامتلاك القدرة على الانطلاق إلى ما ينبغي أن يكون عن طريق امتلاك نموذج مثالي ومستقبلي يتحرك نحوه المجتمع، أو حينما لا يمتلك التيار النقدي قوى التحول الاجتماعي.[6]

                  يعتبر التاريخ عملية كاملة تتحقق من خلالها الذاتية الإنسانية، أي أن التاريخ هو الذي يرد إلى الإنسان (خالق التاريخ) وليس الإنسان هو الذي يرد إلى التاريخ، لذلك فإن المجتمع في كل لحظة هو تجل فريد للإنسان، وتحقق الإمكانية الإنسانية في التاريخ هو الهدف من الوجود الإنساني.

                   

                  يمكن إنجاز عملية انعتاق الإنسان وتحريره من خلال التنظيم الرشيد للمجتمع المبني على إدراك الإمكانية الإنسانية الذي يعتمد على الترابط الحر بين جميع أفراد المجتمع الذين يتاح لهم نفس الإمكانية لتنمية أنفسهم بنفس الدرجة المعطاة للجميع الأمر الذي يؤدي إلى القضاء على الاستغلال وانتفائه فيما بينهم.

                  بناءً على ما تقدم يذهب عالم الاجتماع المعاصر الفرنسي ديدييه إريبون ( 1953- ) إلى أن التفكير النقدي عبر المجتمع (في المستوى الثاني) لا بد أن يتجاوز وجهة نظر الفاعلين الاجتماعيين والمعنى الذي يقدمونه ويضفونه على أفعالهم الاجتماعية التي لا تمثل سوى نوع من الأيديولوجيا التبريرية للوضع القائم وتحقيق المصالح الخاصة الشخصية.

                  وبرأيه، لتفعيل دور النقد الاجتماعي علينا أن ننجز قطيعة إبستمولوجية مع الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا ونعيد بناء مجموع النظام عبر فكرنا، ومعه الميكانيزمات (الآليات) التي تسمح بإعادة إنتاجه، وعبر ذلك إجراء القطيعة مع الطريقة التي تجعل المُسيطَر عليهم يدعمون القوى المسيطرة، مثلاً عبر اختيارهم للإقصاء الاجتماعي بمحض إرادتهم.

                  وهذا ما يحدث في حقيقة الأمر في معظم المجتمعات النامية بشكل عام والمجتمعات العربية بشكل خاص التي لا يتجاوز فيها النقد حدود الفاعلين الاجتماعيين أي القائمين على العملية السياسية والنخب الثقافية الموالية لها، مما يؤدي إلى تحيّز الفاعلية أو القصدية وتحيّز التأكيد والوقوع في الذاتية والابتعاد عن الموضوعية لترسيخ دعائم النظام الاجتماعي القائم وإبقاء المجتمع بعيداً عن التيارات النقدية الحقيقة التي تفضي إلى التغيير والتطوير. لذا يجب أن يكون النقد غاية مجتمعية وليس فردية لصالح فئة معينة. أي النقد من أجل الصالح العام.

                  أما عن غاية ممارسة النقد الاجتماعي، فيجب أن تكون واضحة المعالم، فحريّ على من يمارس النقد أن يستعد لوضع البدائل المناسبة، فإن ذلك يحقق له التوغل أكثر في المسألة محل النقد، والنظر في حيثياتها وأبعادها المختلفة، ويساهم من خلال ذلك في ترقية المجتمع، ذلك أن النقد بهذه الصورة تكون إيجابية، وأن الناس ليسوا على مستوى واحد من النشاط الذهني والتقبل، ولذا نجد لدى المجتمعات المتقدمة عدة مستشارين ونقاد، وهذا ما يحقّق لهم النجاح لوجود الأدوات اللازمة للنقد، وأنهم على استعداد لسد الثغرات ومعالجتها عند حدوث طارئ، وهذا ما تفتقده معظم المجتمعات العربية والإسلامية  فيما يتعلق بالنقد البناء الذي يؤدي إلى الازدهار والتطوير والتحديث نحو حياة أفضل.

                   



                  [1]  محمد نورالدين آفاية: الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة: نموذج هابرماس، دار إفريقيا للنشر، المغرب، ط1، 1991، ص: 28.

                  [2]  أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، مجلد:1، 1966، ص: 237-238.

                  [3]  أبوالنور حمدي أبوالنور حسن: يورجين هابرماس “الأخلاق والتواصل”، دار التنوير، بيروت، 2009، ص: 20.

                  [4]  عبدالعزيز الدخيل: حوار بعنوان: لا توجد ليبرالية عربية أو ليبرالية أمريكية، توجد ليبرالية فقط.. وهي انعتاق العقل من القيد وقدرته على التفكير، حاوره: نادر الحمامي، مجلة الفيصل، العددان: 523- 524، رمضان – شوال 1441هـ، مايو يونيو 2020، ص 69.

                  [5]  علي ليلة: الفكر النقدي في علم الاجتماع – جماعاته وتياراته، من مقدمة كتاب: النظرية الاجتماعية ونقد المجتمع (الآراء الفلسفية والاجتماعية للمدرسة النقدية)، تأليف: زولتان تارد، ترجمة: علي ليلة، المكتبة المصرية، القاهرة، 2004، ص ص 10-11.

                  [6]  علي ليلة: المرجع نفسه، ص 11.


                  • Section 10

                    المحاضرة الثالثة عشر قضايا النقد الأدبي الحديث 01

                     

                     1- الالــــتزام                                  

                    تمهيد:

                        إن قيمة العملية النقدية تتمثل بما تفرزه من علامات فارقة على المستوى الفكري وما تؤديه تلك العلامات من صولات في الساحة المعرفية و بمستويات مختلفة تناسب ذهنية المتلقين على اختلاف انتمائهم و سيولهم فالعملية النقدية في جوهرها قائمة على الصراعات الفكرية التي تسعى إلى البناء التصاعدي لمسايرة الانقلابات الحاصلة على الأصعدة المختلفة الاجتماعية و الثقافية و السياسية و غيرها وكل ماله علاقة في إيجاد حركة نهضوية في مجال النقد وغيره إذ تشهد الساحة الثقافية المعرفية على الدوام انبثاق قضايا نقدية تجعل النص الأدبي محورا للدراسة والأهمية ذلك ارتأينا قراءة عدد من القضايا النقدية لبيان قيمتها المعرفية. ([1])

                    1-الالتزام اتجاه ينبع من حرية الفنان يختار ذلك بملء إرادته تدفعه إليه رغبته فهو التعبير عن حرية

                    الفنان .

                          لغة : لقطة عربية فصيحة فقد جاء في لسان العرب " لزم الشيء يلزمه .... والتزامه وألزمه إياه فالتزم([2])، و جاء في أساس البلاغة " والتزام الأمر من المجاز التزامه عانقه.([3])

                       الالتزام مرتبط بما يقوله النص الأدبي والمتعلق بمضمون الإبداع و يقصد به هو المنهج الذي لا يكتفي  يردد بقوله " كيف يقول المبدع ؟وماذا قال ؟.. وما هي الآثار التي ينبغي تحقيقها  وماهو دوره في الواقع الاجتماعي و السياسي و الأدبي ؟ولا جدال في أن هذا الالتزام لم ينحصر داخل دائرة مغلقة بل انفتح عبر تاريخه الطويل على عناصر متعددة استقطابها ولون عناصرها ولقد اهتم بهذا الالتزام كثير من الاتجاهات كما نجد عند الواقعية الاشتراكية و النقد الأخلاقي الإنجليزي و الإسلامي. ([4])

                          ولاشك أن مصطلح الالتزام وظف توظيفا متباينا بين تلك الاتجاهات ولاشك انه يبرز بشكل واضح مع سارتر في كتابة ما الأدب " وفي هذا الصدد يجدر الإشارة إلى أن " جون بول سارتر" مارس نوعا من التطبيق على ذلك الالتزام إذ حصره في الشر واستقى منه  الشعر تماما – في نظره – مع يمتاز به من خصوصيات تتعلق بالتخييل و الصور وغيرها من العناصر الشعرية الهامة لكنه تراجع في الأخير و اعترف بضرورة الالتزام في الشعر كذلك. 

                    2-نتائج غياب الالتـــــزام :

                         الالتزام له دور إيجابي في استمرار الأدب و الابتعاد عن الانحلال الميوعة غيابه يخلق جوا أدبيا مضطربا تتجاذبه أطراف الأخلاقية و سلبية في الوقت نفسه’ و الحق أن قضية الميوعة و الانحلال تظل تمس الأدب الإسلامي فقط لان الناقد هو المخول الوحيد الذي يمتلك المقاييس النقدية الكفيلة لذلك.

                         ولقد كان من المنتظر أن تأخذ المادية نفس المسار باعتبارها تشجع الالتزام في الأدب وتربطه بالقضايا الاجتماعية الملحة غير أن الذي حدث عكس ذلك .... والمتصفح لأديباتها المنشورة في المجلات و الجرائد الوطنية والعربية يدرك هذه الحقيقة إلى درجة تشجع على التأكد من أن الأدب المادي الواقعي هو أقصى درجات البرجوازية على مستوى الميوعة و الانحلال.                                                                                                  عندما يوغل الأدب في سلبيته و يزداد انتشارا و تهلل له وسائل الإعلام بمختلف أشكالها عند ذلك يتخوف المسؤولون على الأجيال الشابة من الميوعة و الانحراف و يلجئون إلى قرارات المصادرة و الحرف و إدانة الإنتاجيات الأدبية بشتى أساليب العنف و القسوة .

                         وهذا ما حدث في المغرب عندما أقدمت وزارة الأوقاف على إصدار قرار يقضي لمصادرة الروايتين التاليتين (موسم الهجرة إلى الشمال ) لطيب الصالح و (الخبز الحافي ) للمغربي محمد شكري ومنع تداولهما في الأسواق ...وكان المبرر وراء ذلك القرار هو الخوف على أخلاق النشء من الفساد ونفس الواقعة تكررت في القاهرة كتاب (الف ليلة وليلة)حيث أقدمت النيابة العامة على إصدار قرار لمصادرة في حقه لنفس المبرر الأمر الذي خلف موجة عنيفة من الاحتجاج المثقفين العرب .....([5])

                          يقول محمد قطب متسائلا:" أين تذهب بطفلك بعيدا عن هذا المجتمع؟ تحبسه في صومعة انك بذلك لا تربيه تربية حقيقية فضلا عن أن تكون تلك التربية هي التربية الإسلامية فان أطلقته في هذا المجتمع ’فكيف تحميه من بذاءات المجتمع (الجاهلي ) التي ينشرها في الطريق في كل لحظة ؟و كيف تحميه من صورة الانحراف الخلقي في كل أمر من أموره: في المرأة المتبرجة  .. في مغازلات الشباب ... في الغش والكذب ... في صور الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ([6])
                        
                    يعتبر الالتزام من الظواهر التي شاعت في العصر الحديث ليس فقط عند العرب بل الغرب كذلك انه ظاهرة إنسانية لان كل مجتمع يسعى إلى التطور وخدمة شعبه في السراء و الضراء في الخير و الشر لتكون له مكانة مرموقة .وهو قديم في الشعر ظهر بظهور الدعوة الإسلامية فقد كان حساب بن ثابت يدافع عن الرسول صلى الله عليه و سلم وعن الدعوة الإسلامية و المسلمين فكان يهجو الكفار ويذمهم بكلمات وقعها اشد من النبال و كان الرسول صلى الله عليه و سلم يحرض شاعره حسان بن ثابت الأنصاري ليرد على الشعراء المشركين و يدعو له بالنصر و الفلاح بشعره قائلا (اهجوهم و روح القدس معك ) وأحيانا كان الرسول صلى الله عليه و سلم يتعجب من شعر مدافعه قائلا له ( كيف تهجوهم وأنا منهم ؟ )فيرد عليه حسان ( سأسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين ) وهناك شعراء آخرين يسخرون شعرهم في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه و سلم و المسلمين و الإسلام من أمثال عبد الله بن مالك و كعب بن مالك ...         أما في العصر الأموي فقد كان دريد بن الصمة يدافع عن قبيلته كما ظهر شعراء تمثل الأحزاب السياسية لكل حزب ناطقون باسمه ومدافعون عن مبادئه فمن هؤلاء الشاعر الكميت بن زيد , عمران بن الخطاب ,و عبد الله بن همام وآخرون كثيرون أما في العصر العباسي فقد أصبح الالتزام من قضايا نقاد العصر الذهبي من أمثال ابن سلام الجمحي و ابن قتيبة و لقد مثل الالتزام الشاعر ابن تمام الذي كتب قصيدته المشهورة عن فتح عمورية وهناك أبو الطيب المتنبي في داليته و ميميته كذلك.

                        خلاصة:

                        لقد كان الشعر و لا يزال في خدمة القضايا الوطنية ,و من الشعراء الملتزمين بقضايا شعوبهم ومجتمعاتهم في العصر الحديث ,شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا , أبو قاسم الشابي و محمود درويش و سميح القاسم , و سليمان العيسى و غيرهم كثير.

                    يمكن القول بان الالتزام في الشعر الحديث هو تسخير الشاعر و موهبته الشعرية في خدمة الوطن و الثورة من اجل الحرية و الانعتاق , و الخروج من الاستبداد و العبودية يمكننا في هذا الجانب التمثيل بعدة أشعار لشعراء مختلفين و نأخذ على سبيل المثال.

                    2-الصدق الفني

                    مقدمة:

                    الفن بموجب نظرية الصدق الفني هو: الحقيقة الإنسانية مصورة من خلال الفنان، ووظيفة الفنان ليست نقل الواقع كما هو بل نقل انفعاله أمام ذلك الواقع ، فالفن له اشتراطات: أولها الغاية الإنسانية وثانيها العمل على رقي الحياة الإنسانية وثالثها الدعوة إلى الفضائل و المثل السامية. وللجمال مفهوم خاص عند الرومانسيين و الرمزيين ويقوم فكرهم على الربط بين الجمال و الغموض.

                    وهناك نظريتان في الجمال هما النظرية المثالية و النظرية الواقعية.

                    ·        النظرية المثالية: وتعود إلى أفلاطون الذي يرى أن الجمال في حقيقته مثال ، أو فكرة، يتجسد في بعض الأشياء فيجعلها تبدو جميلة .

                    ·        النظرية الواقعية: الجمال صفة يضفيها الإنسان على الأشياء و الموجودات فيحكم عليها بالجمال فالجمال لا قيمة له خارج الذات الإنسانية المُدركة، والجمال بهذا المعنى يكون نسبيا.

                    وفي منظور آخر فإن الجمال هو ما يحقق المنفعة وهو ما ذهب إليه سقراط فلا بد للجمال من أن يفيد الإنسان. وذهب فريق من الفلاسفة المتأخرين هذا المذهب مثل جيو الفرنسي وراسكن الانجليزي، والجمال بنظرهم هو شعور حدسي بتوافق الشيء وتكيفه مع الوظيفة التي يؤديها. وفصل فريق آخر بين الجمال والمنفعة مثل " كانط " فالجمال في نظره هو ما يسرّ الإنسان ويرضي ذوقه من غير ان يكون القصد من ورائه فائدة. وثمة مفاهيم أخرى للجمال منها أن الجمال هو تناسق أجزاء الشيء الجميل وترابطها و الوحدة بينها وانسجامها. ونظرية الفن هي موضوع النقد ومدار اهتمامه بصورة عامة. بيد أن الأدب هو موضوع النقد الأدبي.[7]

                    1.    مفهوم الصدق والكذب عند النقاد:

                     بطبيعةِ الحال، فإنَّ الصّدقَ إذا كان يعني -من وجهةٍ ما- الدقَّةَ في التعبيرِ، والابتعادَ عن الخيالِ، وملائمة الواقعِ، فإنه في الأدبِ، على وجهِ الخصوصِ، يحملُ في توجُّههِ مضامينَ الدقةِ في التعبيرِ الصادقِ عن الانفعالاتِ، والقدرةَ على رَصدِ الواقعِ في الأدبِ بعيدًا عن التزييفِ في المشاعرِ، أو التزييفِ في الواقعِ الموصوفِ في الأدب؛ نثرًا كانَ أمْ شِعرًا؛ ولا أدلَّ على ذلكَ من قولِ حسّان بنِ ثابتٍ في وصفه الشعرَ في أنّه انعكاسٌ حقيقيٌّ لمشاعرِ الإنسانِ، وفيه تتجلّى كِياستُهُ من حُمقِهِ؛ إذ يقول:[8]

                    "وإنَّما الشِّعـْرُ لُبُّ المَرْءِ يَعرِضُهُ ** على المجالسِ إنْ كَيْسًا وإنْ حُمُقا

                     وإنَّ أشعَرَ بيتٍ أنتَ قائلُهُ ** بيتٌ يُقالُ إذا أنشَدْتَهُ صَدَقا"

                     وهو -في هذين البيتَيْنِ- يُشيرُ بشكلٍ واضحٍ إلى أهميّةِ المنطوقِ في الحُكمِ على الناطقِ؛ حيثُ يقاسُ، إثْرَ ذلكَ، المدى الأعمقُ للشاعرية والعبقريَّةِ الشّعريةِ في تحرّي الصّدقِ في التَّعبيرِ الشّعريّ. وقد دعا الكثيرُ من النّقّاد إلى إتباع الصدقِ في الكتابة الأدبية: في الشِّعرِ والنَّثرِ؛ حيثُ يقولُ ابنُ طباطبا (ت322هـ) في تِبيانِ عِلَّةِ حُسْنِ الشِّعرِ والإعلاءِ من مكانتِهِ: "ما يعلمُ السّامع له إلى أيِّ معنى يُساقُ القولُ فيهِ قبلَ معناه من التّصريحِ الظّاهرِ الذي لا سِترَ دونَه"[9]. وهو، بذلك، يؤكِّدُ ما أوردَهُ حسّانُ بنُ ثابتٍ في البيتينِ السّابقَيْنِ. وربَّما أن العصر الجاهليَّ، في سياقه الأدبيّ، لم يغفلْ هذه القضيةَ؛ فقد أولى الصدقَ اهتمامَه؛ حيثُ كانوا يعيبون على من يكذبُ في شعره، ويسمّونه الادّعاء؛ فقد "عابت العربُ المهلهلَ بنَ ربيعةَ؛ لكذبه وتزيُّدِه في القول، وقالوا عنه: "كان يدّعي في شِعره، ويتكَثَّرُ في قولِه أكثرَ من فِعلِه".[10] وقد كان هناك الكثيرُ من النُّقّاد الذين اتّبعوا رأيَ ابنِ طباطبا؛ من أهمّهم الآمديُّ (ت631هـ)؛ إذ إنّه "رفضَ مقولةَ "أعذبُ الشّعرِ أكذبُه"، رادًّا عليهم بقوله: يقولون أجودُ الشِّعرِ أكذبُه، ولا واللهِ، ما أجودُه إلا أصدقُه". وبهذا، فإن المُطّلعَ على هذه الآراءِ، وغيرها الكثير، يجدُ أنها تربطُ قضيةَ الصّدق بالجانبَين: الأخلاقيّ والدينيّ؛ هذه الأدلَجةُ التي اكتنَفَتِ الحركةَ النقديّة، عبر العصور، لم تكن تُغفلُ بأي شكل من الأشكال هذيْنِ الجانبَيْن؛ لأهميَّتهما، ولطبيعة التفكير العامِّ الذي كان يحيطُ بالعقلِ العربيّ، آنذاك، خصوصًا؛ إذ يحكمون على النّتاج الثقافي الإبداعيّ من خلال مُبدعِه وأفُقِهِ الأخلاقيّ؛ وربّما كان لهذا الأمرِ دورٌ كبيرٌ في توجيه الآراء النقديةِ نحو وضع قضيّة إشكاليّة كُبرى تحت عُنوان: الصّدق والكذب في الشِّعرِ.

                    2.    قضية الصدق والكذب في الشعر:

                     من خلالِ المُنطلَقاتِ المذكورةِ في تحديدِ ماهيّةِ الصدقِ عند النقّاد؛ فإنه، بطبيعةِ الحالِ، يتمخّضُ عن ذلك فئاتٌ من النقادِ كانوا يَنْحون في رؤاهم النقديةِ مناحيَ مختلفةً في تناولهم للشعر نقديًّا، من أهمِّها[11]:

                    *فئةٌ تفَضِّلُ الكذبَ على الصّدقِ، وهم الذين يفضِّلون اللفظَ على المعنى؛ أي مدرسة الصّنعةِ.

                    *فئةٌ تطلبُ الصدقَ والحقيقةَ، مع رفضها للكذبِ، وهم مدرسةُ العقل؛ التي تفضِّلُ المعنى على اللفظِ.

                    *فئةٌ متوسّطةٌ معتدلةٌ؛ ترى أنَّ الصدقَ والكذبَ ليسا في مجالِ الشِّعرِ.

                    *فئةٌ رافضةٌ للشعر بعامّةٍ؛ من واقعِ رؤيتِها له على أنّه كذبٌ يُفسِدُ الأخلاقَ.

                    من خلال الاطّلاع على هذه الفئات، يمكنُ الخروجُ برأيٍ تتضّحُ من خلاله أن قضية الصدقِ والكذب اكتَنَفَتْها الآراء المؤدلجةُ التي تحكمُ على الشعرِ من انطباعاتٍ يتضمّنُها في شكله أو مضمونه، مع أن الفئةَ المتوسطةَ المُشارَ إليها في النقطةِ الثالثةِ كانت أكثرَ عدلاً، بالضرورة، في النظرِ إلى الشعرِ؛ إلى ماهيّتِهِ، بعبارةٍ أدقَّ؛ إذ إنّها أزاحتْ فكرةَ الصدقِ والكذبِ عن الشعر؛ فهو في الحقيقةِ يقومُ على الخيالِ والمجازِ الذي قد ينافي، بنظرةٍ سطحيّةٍ له، المنطقَ الأخلاقي في الحكمِ على الشّعر من خلال حُكْمَيِ الصدق والكذب.

                    إلا أنّ الشعرَ ينحو جانبًا عن هذه الأحكامِ التي تتناوله من خارجه، لا من بنيته الداخلية، التي يمكنُ أن نحكمَ عليها في سياق أدبيٍّ بحتٍ غيرِ مأخوذٍ ولا خاضعٍ لأحكامٍ مُسبَقةٍ تنفي شعريّته، كما يتضجُ في النقطة الرابعةِ، عند تلك الفئةِ التي ترى الشعرَ مفسدةً للأخلاقِ برُمّتها، فهي ترفضُه جُملةً وتفصيلاً! حتى إنَّ النقّادَ صاروا في سياقٍ موازٍ يبحثون في أصدقِ بيتٍ وأكذبِ بيتٍ، ويحكمونَ على ذلك من انطباعاتٍ ذاتيّة، في قياس تلك الأبياتِ من مدى مطابقتها للواقعِ أو مخالفتها له، غافلين عن قضية مهمة ألا وهي قضية "التخييل"؛ فالشعر يقوم على التخييل، ولو كان الحكم على الشعر من خلال معيارَي: الصدق والكذب؛ لكان الشعر كله كذبًا؛ كونه لا يقوم على رسم الواقع كما هو، أو كما كان عليه؛ إنهم مثلاً يصفون بيتَ الأعشى ميمون بن قيس بأنه أكذبُ بيتٍ؛ إذ يقول[12]:

                     لو أسنَدْتَ ميتًا إلى نَحرِها ** عاشَ ولم يُنقَلْ إلى قابِرِ

                    فقد نسبَ النقادُ كذبَ البيتِ إلى مغالاته؛ و"المغالاة" إحدى التسميات المرادفة لمصطلح "الكذب"؛ تتجلى هذه المغالاة في جَعْلِ نحرِ المحبوبة مكانًا أسطوريًّا تنتهي فيه قيمةُ الموتِ والقبرِ؛ فهي الملاذُ الحقيقيّ المانحُ للحياةِ، رغم الموتِ الذي حدث مسبقًا؛ لكنْ، ومن وجهةِ نظرٍ أخرى، ألا يمكن أنْ يكونَ هذا التصويرُ بذخًا شِعريًّا عاليًا في تصوير المحبةِ للمحبوبةِ من قِبَلِ الشاعرِ، وقدرةً استثنائيةً لديه في خلقِ عالم من المجاز، ليرسمَ من خلاله، صورةَ المحبة التي تختلج في ذاته؟! وبهذا، تنتفي قضية الكذب عن هذا البيتِ وغيرِه من الأبياتِ. بل إن النقادَ غالَوْا في إطلاق هذه الأحكام النقدية، فربّما، من وجهةِ نظرهم، احتوى البيت الواحد على أصدقِ شطرٍ وأكذب شطرٍ! من ذلك قول لبيد بن ربيعةِ، في بيته الشعريّ المشهور[13]:

                    ألا كُلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ** وكُلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ

                    "إذ يروي لنا أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أصدق كلمة قالها شاعر، كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ" ولمن لا يعرف، فإن معنى ما خلا: أي ما سوى، ذلك التعليق النبوي جاء على إثر موقفٍ يرويه المؤرخون، وهو أن القريحة الشعرية للبيدٍ تحرّكت عند سماعِه بوفاة ملك الحيرة النعمان بن المنذر، فأنشدَ قصيدةً صادقة المشاعر مليئةً بالجواهر، ويوم أشرقت شمسُ الإسلام في سنواتِه الأولى، صادفَ أن مرّ عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- على لبيدٍ وهو يُلقي بقصيدتِه تلك، وكان فيها قولُه: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" فقال عثمان: صدقت، ثم قال لبيد الشطرَ الثاني من البيت: "وكل نعيم لا محالة زائل"، وهنا تعقب عثمان -رضي الله عنه- لبيدًا، فقال له: "كذبت، نعيم الجنة لا يزول".

                    في الحقيقةِ، فالحُكمُ هنا منبعُهُ -مثلما وردَ سابقًا- مبنيٌّ على جانب دينيّ، سبقَ الشعرَ لحظةَ نُطقِه؛ فأوردَ مستمِعَهُ إلى الحُكم بصدقِ قول الشاعرِ، حين قال: "ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ"؛ لأنّه موافق للمنظومةِ الدينيّة، التي احتكمَ إليها الشعرُ والشاعرُ في آنٍ معًا؛ إلا أنه في الشطرِ الأخير من البيتِ الشعريّ: "وكُلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ" حكمَ المستمع بكذب الشطرِ، لأنّه، في انطباعه الدينيّ المسبقِ، يخالفُ المنظومة العَقديّة. حتى إن فقهاءَ الأمّة، حين يذكرون هذا البيتَ الشعريَّ فإنّهم يذكرونه شطرًا لا بيتًا، أيْ أنهم يذكرون ما وافقَ العقيدةَ، بوصفِهِ "أصدقَ شطرٍ" وينكرون شطرَه الأخيرَ بوصفه "أكذبَ شطر"؛ فابنُ تيمية يقول في مَعرِضِ استشهاده بالشطر الشعري: "المنفي في كلمة الإخلاص هي الطواغيت والأصنام وكل ما عُبد من دون الله، وكلها باطلة بلا ريب، كما قال لبيد في شعره الذي سمعه منه النبي -صلى الله عليه وسلم-: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" لعلَّ أمرَ تصنيفِ الشعرِ وفق منظورَيِ الصدقِ والكذبِ يجعلُ المطَّلِعَ: ناقدًا أم قارئًا، يقعُ في إشكاليّةِ العِلّةِ؛ وهذا، في الحقيقةِ، ما دفعَ النقّادَ إلى تقسيمِ الصدقِ قِسمَيْن، فضلًا عن أنهم قسّموا "الكذبَ في الشعرِ" إلى قِسْمَيْنِ كذلك، وتفصيل ذلك تاليًا.

                    *الصدق الأخلاقي:

                     "والمقصود بهذا النوع من الصدق ذلك الشعر الذي يسعى إلى التعبير عن الوقائع بلغة صادقة لا تزييف فيها ولا تحريف للأشياء كما هي في حد ذاتها؛ وهذا يستدعي من الشاعر تنظيم قوله وفق معايير مضبوطة ومغايرة في الآن نفسه للكلام الشعري الذي يجنح فيه بعض الشعراء إلى الاتساع في القول وركوب الغلو والمبالغة ودخول غمار التناقض والاستحالة. فهو قول بتعبير القرطاجني مطابق للمعنى على ما وقع في الوجود. وتكمُنُ الأخلاقية المقصودةُ بالصدق هنا، كما يتضح في الكلام المُقتَبَسِ في واقعية الوصفِ والرصفِ الشعريّ، دونَ زيادةٍ أو نقصان؛ أي تصوير الواقعِ بحَرفيّةٍ دون مواربَةٍ؛ وهذا، بطبيعةِ الحالِ، صحيحٌ أن يمنحُ الشعرَ صفةَ الصدقِ، لكنه يتنافى مع بنائيته القائمةِ على المُحاكاةِ والتخييلِ، فما الشعرُ لولا المجازُ؟ وما الشعرُ لولا الخيالُ؟.

                    *الصدق الفنيّ:

                     إنَّ الشعرَ "أحد فنون القول، لا يدخل إلى نفوسنا إذا لم يكن صادقًا مستندًا إلى تجربة يهتزّ لها ضمير الإنسان.". وفي هذا القسم الذي وضعه النقاد للصدق في الشعر، تتجلّى قيمة الصّدق ومعيار اعتباره بمدى تعبيره عن الانفعالات الشعورية، ومدى ملامسة الشعر لواقعية الشعور وليس لواقع الشاعر المحيط به؛ فكلما انسجمنا مع القصيدة بصُوّرِها وتشكلاتها الفنيّة تكونُ هذه القصيدةُ أصدقَ فنيًّا. وربّما يكونُ هذا الفرعُ من الصدقِ أقربَ إلى توصيف ماهيّة الشعر؛ إمّا كان لزامًا تصنيفُه وَفقَ معيارَيِ: الصدق والكذب.

                    *الكذب الفنيّ:

                     المقصودُ به مخالفةُ التصويرِ الشعريّ للواقع، ورسمه صورةً تتنافى مع الطبيعة الحقيقيّة لما أرادَ الشاعرُ وصفَه. وبهذا، فإن الشعر يتسمُ بالكذبِ الفنّي، حين يتّسمُ بمخالفةِ الواقعِ. ولكنْ، قد يتبادرُ إلى ذهنِ المتلقّي سؤالٌ: لماذا لم يعُدَّ النقادُ "الكذب الأخلاقيّ" ضمنَ تقسيماتهم، كما عدّوها في تقسيمهم للصدق؟ إنَّ إغفالَ النقاد لهذه الفرعيّةِ لَيومئ، بشكل أو بآخر، إلى سطحية تلك التقسيمات وعدم دقتها في وصفِ الشعرِ وتقييمه؛ وهذا، في حقيقةِ الأمر، ما يجعل القارئَ يقول: ما دامَ الشعرُ يقومُ على الخيالِ، والخيالُ منافاةٌ للواقعِ بالضرورة، فهذا يعني أن الشعرَ كُلَّهُ كذبٌ، وهو أمرٌ غيرُ منطقيٍّ؛ فيتساءل القارئُ نفسُهُ حينها: لماذا لا تنتفي هذه التقييمات المعيارية التي لها مجالاتها الحُكميّةُ الأخرى، بعيدًا عن جانبٍ إبداعيٍّ لا قِبَلَ له بأن يُحتَكَرَ داخلَ بوتقةِ الصدقِ والكذبِ، وَفقَ الرؤى التي ابتدَعها النقّادُ في ذلك! وهذا، إن جاز التعبيرُ، ليسَ تحديدًا لحُكمٍ نقديٍّ مُطلَقٍ تجاه قضيةٍ الصدقِ والكذب، وإنما هو محاورةٌ ونقاشٌ لمن أثاروا هذه القضيّة؛ حيثُ إنَّ القضيةَ في الاصطلاح،: الموضوع الذي يحتملُ النقاشَ والأخذَ والعطاءَ.

                    *الكذبُ الإيهامي:

                     هو الكذبُ الذي يختبئُ فيه الشاعرِ خلفَ صورةٍ بعيدةِ المنالِ؛ حيثُ "يَحتمي فيه الشاعر بالإيهام والإغراق والتهويل في القول لإيصال رسالته، والذي يوقعنا في كمين معنى غير المراد منه. وهو أسلوب مردّه إلى إضمار المعنى الشعري بقول مغاير للحقيقة والواقع. وقد تمّت مناقشة هذا الموضوع وفق رؤى متباينة دفعت مجموعة من النّقاد إلى رفض هذا النوع، بل ذهب بعضهم إلى وصفه بالشّناعة والخساسة والقبح.

                    إن النقادَ يطمحونَ إلى قصيدةٍ "خاليةٍ" من الكذبِ بنوعَيه: الفني والإيهاميّ؛ وإن كانَ فإنه يتجلّى دونَ غُلوٍّ أو إفراطٍ أو تفريطٍ أو استحالةٍ؛ وهذا يمنحُ الشعرَ منطقيّته المفهومية المستوعَبَةَ؛ بحيثُ يمكنُ للمتلقي: قارئًا أم ناقدًا، أن يمنحَ المقبوليةَ للقصيدة المُتَلَقّاةِ، إذا اكتسبت العناصرَ والمقوِّماتِ التي تمنحها تلكَ الصفةَ. لقد شغَلَتْ قضيةُ الصدقِ والكذب في الأدب العربيِّ عمومًا، وفي الشعر العربيّ، على وجه الخصوص، بالَ النقّادِ؛ فأفردوا لها الكتبَ والمجلّداتِ والنقاشاتِ الحادّةَ، بين مؤيدٍ لها وبين معارضٍ، وبين من يقول: "أعذبُ الشعرِ أكذبُه" أو "أجملُ الشعر أصدقُه"، فقد "صار الكذب مقياس الأدبية، مادام متفقاً مع المثال التقليدي، وبات الصدق مرفوضًا، ما دام يخالف ذاك المثال" وبين هذه وتلك تناوشتِ الشعرَ العديدُ من الإشكاليّاتِ؛ إن وظيفةَ الشاعرِ هي رسمُ الواقعِ المعيشِ، سواءٌ أكان فرديًّا أم جمعيًّا، بصورةٍ يتقبلها المتلقي، محفوفةٍ بالمجازٍ الذي يمنحُ القصيدةَ دهشتَها، فالشعرُ في إحدى تعريفاتِه، ليس كلامًا موزونًا مُقفّى، كما وردَ في تعريف الشعر في الاصطلاح النقديّ القديمِ حَسْبُ، إنما هو كذلك الدهشة، أو قدرة الشاعر والشعر على صناعة الدهشة في آنٍ معًا. وليس من الضروريّ "أن يكون الشاعرُ قد عانى التجربةَ بنفسه حتى يصفَها، بل يكفي أن يكون قد لاحظها، وعرف بفكره عناصرَها، وآمَنَ بها"[14]

                     وبهذا فإنه لا بدَّ للشاعرِ من أدواتٍ محددة، كالثقافة والكفاءة والمعرفة والبراعة والموهبة في نظم الشعر، وربما اكتنفتْ هذه السماتِ بعضُ المبالغاتِ التي تجنحُ إليها الصورةُ الشعريّةُ، من خلال استخدام العناصر البلاغية المتعددة؛ كالكنايةِ والتشبيه والاستعارة والتورية وغيرها من الطرائق البلاغية والبيانية، وهذه الطرائق هي ذاتها التي قد توهمُ الناقدَ، حال وجودها في القصيدةِ بأن الشاعرَ قد وقَعَ في شَرَكِ الكذبِ، وما "الكذبُ" في منظور النقادِ سوى محاولة إلى إلباسِ القصيدة ثوبَ الخيالِ ومحاولة الشاعر التخييلَ من خلال توظيف العناصر الأسلوبية المتعددة؛ يمكن للمتلقي الاستعاضةَ، إذًا، عن مصطلح الكذب، باستخدامه لمصطلح: "الغموض"، أو "المغالاة"، أو "المبالغة"، أو "الإبهام" في بعض ما يُغلَقُ من المعاني والدلالات الشعرية؛ وإذا استطاع المتلقي أن يصلَ إلى دلالات القصيدةِ، ومن ثَمَّ استطاعَ فكَّ شِفراتها؛ مع أنها توظِّفُ الأساليبَ البلاغية المذكورةَ، فإنه بذلك قد منح القصيدة صفةَ الصدقِ، الصدقِ الفنيّ، بمعنى أدقّ. وبهذا، فإن المعيارَ الحقيقيَّ في تحديدِ صفةِ "الصدقِ أو الكذب" في الشعر، إن تمَّ اعتماد هذه النظرةِ معيارًا نقديًّا للقصيدةِ، ينبني على مدى الاتساعِ الثقافي والمعرفي لدى المتلقي؛ فالشعرُ العربيُّ، بيتٌ واسعُ الأركانِ، متعدِّدُ الشُّرُفاتِ، ذو سياقاتٍ عديدةٍ، ينبني، في أساسِه، على المجاز، ليُعَبِّرَ فيه الشاعرُ عن الواقعِ، لكنْ بصورةٍ أعلى من المرئيِّ، وأعمقَ من المحسوسِ. ولِيَعـْبُرَ إلى مُدنِ الخيال؛ يُحَقِّقُ طُموحًا غائبًا أو مُغَيَّبًا. وليسَ من المنطقي أنّ كلَّ نصٍّ أدبيٍّ يُقرأ ولا يُفهم، أو لا يصل إلى قارئه يوسَمُ بالكذب، وأن كلَّ نص يصل إلى ذهن متلقيه يُوسَمُ بالصدق.



                    [1]  سامي شهاب أحمد , النقد الأدبي (قضايا واتجاهات ), ص11

                    [2]  ابن منظور لسان العرب

                    [3]  الزمخشري, أساس البلاغة

                    [4]  محمد إقبال عروي, النقد الأدبي بين الاستيطاقيا والالتزام , مجلة المسلم المعاصر, ع47 , لبنان 1986

                    [5]  ينظر نفس المرجع

                    [6]  محمد قطب , منهج التربية الإسلامية , دار الشروق, ج(3), ط (1), سنة 1980, ص12

                    [7]  فرحان بدري كاظم الحربي، الصدق الفني، كلية التربية للعلوم الانسانية قسم اللغة العربية،جامعة بابل، 07/01/2016 ، تاريخ الزيارة 11/11/2021، الرابط: https://www.uobabylon.edu.iq/uobColeges/lecture.aspx?fid=10&depid=3&lcid=47732

                    [8]  حسان بن ثابت، "حسان بن ثابت"، www.aldiwan.net، اطّلع عليه بتاريخ 12/11/2021.


                    [9]  حسين صالح ، "الصدق والكذب قراءة أخرى"، سر من رأى، ع 34، المجلد 9، (2013-07-01)، ص 240.

                    [10]  وليد قصاب، "من ملامح الصدق النفسي في النقد العربي"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ12/11/2021.

                    [11]  الجوهرة بنت بخيت آل جهجاه (2012-03-01)، "تجليات التشكيل النقدي لنظرية الصدق في النقد العربي القديم"، مجلة جامعة المدينة العالمية المحكمة، العدد 2، صفحة 12.


                    [12]  الأعشى، "شاقتك من قتلة أطلالها"، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ: 12/11/2021.

                    [13]  إسلام ويب، "تأملات في أصدق شعر الجاهلية"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ: 12/11/2021.


                    [14]  التجربة الشعرية بين الصدق الفني وصدق الواقع"، books.google.jo، اطّلع عليه بتاريخ: 12/11/2021.



                    • Section 11

                      المحاضرة الرابعة عشر القضايا النقدية02

                      3- الأجناس الأدبية

                      من مظاهر الحداثة ما كثر الحديث عنه قضية الجناس الأدبية أو تداخل الأنواع الأدبية 

                      1 الأجناس الأدبية:

                         شغلت قضية الأجناس الأدبية اهتمام الباحثين مند مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر , وعلى الخطوات الرائدة لأقطاب المدرسة الرومانسية الألمانية , وعلى رأسهم الأخوين شليغل انصبت الجهود على هدم الموضوعية بين الجناس الأدبية  ([1])

                          إن مثل هذا الهدم الذي يعود الفضل فيه للمدرسة الرومانسية , فتح مجال لظهور أجناس و أنواع جديدة , ولم يعد الجنس خاضعا لسلطة " نقاء النوع " فمهما حاول الكلاسيكيون وضع حدود تفصل بين الأنواع الأدبية فإنها ليست بتلك الصرامة التي تحدثوا عنها , فالنوع الأدبي " لا يستطيع الزعم انه نقي تماما  من الاختلاط مع الأنواع الأخرى , كما انه لا يستطيع  أن يستمر تشرنقا على نفسه , فالأنواع الأدبية تتداخل " ([2]) ولا وجود لنوع أدبي نقي في الوقت الحاضر لم تعد بين الأنواع الأدبية من شعر أو نثر , قصيدة أو قصة أو رواية أو سيرة ذاتية تخييلية أو غير ذلك من الأنواع الأدبية حدود فاصلة واضحة " ([3])

                      وقبل الخوض في هذا الموضوع أكثر علينا أن نخوض قليلا في مصطلح  الأجناس الأدبية

                      الجنس لغة :"هو الضرب من الشيء, وهو أعم من النوع " ([4]), والنوع يأتي في  المرتبة الثانية من مراتب الأشياء النظر إلى كليتها و جزئيتها و عمومها و خصوصها و ذلك بعد الجنس" ([5])

                       و لفظة جنس في البحوث الغربية " تقابل في الفرنسية كلمة ( genre ) التي تحيل على معنى الأصل و الولادة , وهي تطلق في معناها العام على مجموعة ما تندرج فيها أنواع هي بمثابة الفروع من الأصل"  ([6])

                      اصطلاحا :الأجناس الأدبية "هي القوالب الفنية الخاصة التي تفرض بطبيعتها على المؤلف إتباع طريقة معنية , فمثلا يتبع المؤلف طريقة خاصة حتى يعالج في شكل تمثيلي نس الموضوع الذي قد يعالجه آخر في قالب خطابي" ([7])

                           ويرى النقد ياوس أن مقولة الجنس الأدبي " تقضي إلى اعتباره بنية موحدة العناصر تنهض على جملة من الخصائص الحيوية المتكاملة , وهي الخصائص الشكلية و المضمونية معا , وتكون مجتمعة قرائن دالة على جنس بعينة يتمكن القارئ  بفضله من التعرف على الماهية الأجناسية الذي يؤوله " ([8])

                            إذن الجنس الأدبي هو ذلك الاسم الأجناسي الذي يطلق على نصوص ما تجمع بينهما خصائص معنية سواء من الناحية الشكلية او المضمونة و عند الحديث عن الأجناس أو الأنواع الأدبية يحضرنا سؤال مفاده كيف ظهرت ? وما الداعي لوجودها ?
                            للإجابة عن هذه التساؤلات لابد لنا الرجوع إلى حياة الإنسان البدائي الذي تطورت قواه عبر الزمن وتمكن من اتخاذ قرارات و موافق وهذا جراء قدراته العقلية و العاطفية و كذلك الخيالية و الغريزية , وهذا حتى يحافظ  على وجوده الفردي , ويؤمن لنفسه العيش و السلامة و تحقيق الذات , وقد ولد ذلك فنونا وآدابا , ونظريات علمية , عرف بها الكثير من أسرار الطبيعية وسحرها لصالحة باكتشافاته و اختراعاته , ومن بين ما توصل إليه الإنسان "....الأجناس الأدبية المختلفة التي ما فتئت تتغير و تتوالد مواكبة مسيرة الإنسان عبر العصور و البيئات "  ([9])

                        يرجع هدسون ظهور الأنواع الأدبية إلى تلبية حاجاتنا النفسية وكل حاجة نشبعها بنوع معين , يمكن أن تقسم " حوافزنا الذاتية إلى أربعة أنواع:

                      ·        رغبتنا في التعبير الذاتي ( أوجد الشعر )

                      ·        اهتمامنا بالناس و أعمالهم (أوجد المسرح )

                      ·        اهتمامنا بالواقع الذي نعيش فيه و بعالم الخيال الذي تنقله للوجود ( أوجد الأدب القصصي)

                      ·        حبنا للصورة من حيث هي صورة ( أوجد الأدب ككيان قائم بذاته " ([10])    

                      نخلص إلى أن الأنواع الأدبية وجدت تلبية لرغبات الإنسان النفسية أو الاجتماعية، وربما لهدا السبب اختلف في قضية تقسيم الأدب إلى أجناس مند القديم، وهده القضية تحيل إلى نظرية الأنواع  الأدبية. 

                            ونظرية الأنواع الأدبية تقوم بتصنيف الأدب بحسب أنماطه الأدبية وبنياته و التقسيم هذا من أقدم قضايا الفكر الإنساني , تنوعت فيه الآراء بدءا من تصورات أفلاطون وتلميذه أرسطو بالكلاسيكية و الرومنسية وصولا إلى العصر الحديث 

                           يعد أفلاطون صاحب أقدم أصل بالجنس الأدبي من خلال آرائه التي ضمنها كتابة " الجمهورية " فقد قسم الشعر إلى شعر محاكاة مباشرة للأشخاص هو الشعر المسرحي , وشعر وصف وتصوير للأعمال الإنسانية هو الشعر السردي وقسم ثالث ذي نمط مختلف يتناوب فيه الحوار و السرد كما هو الشأن في الملحمة حيث يندر استخدام السرد و الصرف "  ([11])

                             وقد تبنى  أرسطو أراء أستاذه في هذا التقسيم , لكنه تجاوز تصاريف القول التي وقف عندها أفلاطون ليصنف الشعر حسب مدار المحاكاة و صيغتها و وسيلتها فقد استخدم مبدأ " المحاكاة بمعنى الصناعة أو الصياغة ليصل إلى المشترك : ( السردي و الدرامي ) , لكن انطلاقا من الواقع الأدبي استخراج الأنواع الخمسة : الملحمة , المأساة , الملهاة , الشعر الغنائي و الموسيقي ثم عاد و دمج المأساة و الملهاة تحت عنوان الدرامي ([12])

                            أما الكلاسيكية فقد حذت حذو أرسطو ونادت هي الأخرى بصفاء النوع وحصرت على نقائه , وهذا يعني أن كل نوع أدبي قائم بذاته , له حدود و حواجز تفصله عن باقي الأنواع الأخرى لا يجب أن نتخطاها , و الكلاسيكيون " ينادون بضرورة فصل التراجيديا عن الكوميديا فصلا تاما , و يعيبون أشد العيب أن تتخلل المأساة مشاهد أو شخصيات فكاهية "([13])
                         هذا عن الكلاسيكية أما الرومنسية فقد خالفتها ورفضت التقسيمات بين الفنون , لان الفنون تشكل فيما بينها منظومة متكاملة تعبر عن جوانب الطبيعة الإنسانية , وهو نفس موقف النقاد المحدثين  فكروتشيه مثلا من الشخصيات الحازمة التي رفضت التقسيمات , وثارت على فصل فروع الأدب , فهو يبرى هذه التقسيمات مدرسية لا غير , يقول في هذا الصدد " هذه ملحمة وهذه غنائية او هذه دراما , فتلك تقسيمات مدرسية لشيء لا يمكن تقسيمه , ام الفن هو الغنائية ابذأ " وقولوا لو شئتم هو ملحمة العاطفة و دارميتها "([14])

                         هذه بعض البحوث التي تناولت نظرية الأنواع الأدبية عند الغرب, أما عند العرب فلم تكن هناك نظرية واضحة المعالم

                      -         نظرية الأنواع الأدبية عند العرب القدامى

                           قسم العرب الأدب إلى نوعين اثنين هما الشعر والنثر, ومن ثم قسموا كل فرع إلى أنواع أو أجناس’ فأبو هلال هلال العسكري في كتابه الصناعتين يقول:" أجناس الكلام المنظومة (ثلاثة) وهي : الرسائل والخطب والشعر" ([15])  رأي العسكري بأن الكلام ثلاثة أنواع  وهي : الرسائل والخطب والشعر ولكن الأدب فرعان اثنان : شعر ونثر, الرسائل والخطب من نفس الجنس ألا وهو النثر , والفرع الثاني وهو الشعر.

                           حازم القرطاجني هو الآخر قسم الشعر إلى أنواع فيقول:"الشعر أجناس وأنواع تحتها أنواع أنواع, فأما الأجناس الأول :فالارتياح والاكتراث وما تركب منهما.... والأنواع تحت هذه الأجناس هي الاستغراب والاعتبار والرضي ....والأنواع الأخرالتي تحت هذه الأنواعهي المدح والنسيب والرثاء...." ([16])

                              وقد حدد قدامة بن جعفر الفنون التي اختص بها الشعر دون النثر فقال: " المديح والهجاء والنسيب والمراثي والوصف والتشبيه"([17]) هذا عن تقسيمات الشعر, أما النثر العربي فهو الآخر عرف أنواعا عديدة , وهذه بعض الأمثلة على تقسيم النقاد القدامى ,النثر العربي " عرف أنواعا عديدة منها : المثل والحكاية الشعبية والحكاية الخرافية والقصص الديني والبطولي والسيرة والأسمار والمقاومة والخطبة والرسالة " ([18])

                             وبالرغم من هذه التقسيمات إلا أن نظرية الأنواع الأدبية لم تكن واضحة والعرب القدامى لم يهتموا بهذه القضية، وقد أشارت العديد من الدراسات والأبحاث إلى تقصيرهم في هذا الجانب، وعدم تدقيقهم في مسألة الأجناس الأدبية بل أشاروا إليها دون قصد عن طريق تقسيمهم للكلام.

                      -         نظرية الأنواع الأدبية عند العرب المحدثين:

                            العرب المحدثون انقسموا في قضية الأجناس الأدبية إلى قسمين, قسم يرى أن "مسألة الأنواع الأدبية بدعة، سنها المستشرقون لما عجزوا عن فهم أجناس داخله فسارعوا إلى التصور الغربي يسقطونه إسقاطا على النصوص العربية "([19])

                         أما القسم الثاني فآمن "بأن مقولة الأجناس الأدبية ينبغي أن تكون حاضرة في ذهن دارس النصوص الأدبية, توجه عمله وتهديها لمسالك المؤدية إلى خصوصية الآثار, إلا أنه انكب عن تعريف الجنس ونظر في المسألة من زاوية اختصاصه"([20])

                        فالفريق الثاني بالرغم من اعترافه وإيمانه بمقولة الأجناس الأدبية إلا أنه عجز إن صح التعبير عن تعريف الجنس, وكل واحد يعرف الجنس من ناحية تخصصه  ويقول محمد القاضي: " أن الجنس يحدد بعناصر ثلاثة: الشكل والأسلوب والمضمون" ([21])  فتحديد الأنواع لا يخرج –حسب رأي الكثير من الباحثين- على عناصر ثلاثة" أولها الصياغة من هي تشكيل للمادة الخام التي هي اللغة , وهذا هو ألصق المقومات بالأدب , وثانيها معيار المضمون, فهو الذي يتقيد بالدلالة المقصودة دون التفات إلى الصوغ الفني الذي جاءت فيه , وأما ثالثهما فمعيار التركيب ويختص بالسبل الإبداعية التي يتوصل بها الأديب لبلوغ غرضه الدلالي و الفني في نفس الوقت.([22])

                            والمعاصرون العرب لا يختلفون عن الغرب في تصنيفهم للأجناس الأدبية فمحمد مندور مثلا يشير إلى " أن أنواع الشعر عند اليونان أربعة: غنائي وملحمي ودرامي وتعليمي"([23])

                        وقد فرق محمد مندور بين الشعر والنثر على أساس المبنى والمعنى " إذا اجتمعت للشعر الموسيقى والمضمون الشعري وأسلوب التعبير اللغوي الشعري الطابع, استطعنا ارتكازا على هذه العناصر الثلاثة أن نميز بين الشعر والنثر " ([24])  ومهما يكن من أمر النقاد المحدثين في قضية الأجناس الأدبية فإن النظريات مازالت غير واضحة المعالم عندهم.

                          خلاصة:

                       وعموما نظرية الأجناس الأدبية لم تبق كما كانت قديما، ففي العصر الحديث تغيرت و أصبحت دراستها ذات طابع وصفي فليست هي بأوامر علمية فنية مرسومة لدى المؤلفين, ولكنها شروح وتعليل لا يحددان العمل الفني تحديدا تحكيميا, ولا يحصر نفسه حصرا تلقائيا, و في هذه النظرة الوصفية العلمية يمكن أن يختلط جنس أدبي بجنس أدبي ليؤلفا جنسا جديدا.  ([25])

                      4 – التناص

                        تمهيد : من بين المصطلحات النقدية التي أصبحت تشكل محورا أساسيا في النقد الأدبي – مصطلح التناص، حيث انه مصطلح وقف عنده النقاد فأولوه عناية كبيرة، هذا المصطلح كثرت تعريفاته، متعدد الأوجه التعريفية و ذلك لاختلاف الحاضنات البيئية و الفكرية للنقاد وهذا ما جعل مصطلحا فضفاضا قابلا للمناورة في التعريف.
                         ولهذا بات هذا المصطلح معضلة تستدعي للانتباه و هذا ما أكده محمد مفتاح بقوله: " إن التناص ظاهرة لغوية معقدة تستعصي على الضبط و التقنين، إذ يعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي وسعة معرفته وقدرته على الترجيح، على ان هناك مؤشرات تجعل التناص يكشف عن نفسه و يوجه القارئ للامساك به , ومنها التلاعب بأصوات الكلمة و التصريح بالمعارضة واستعمال لغة وسط معين و الإحالة الى جنس خطابي برمته " ([26])

                         والتناص هو " فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات أخرى مختلفة  ممتص لها يجعلها من عندياته و تنصيها منسجمة مع فضاء بنائه ومع مقاصده  محول لها بتمطيطها أو تكثيفها بقصد مناقصة خصائصها و دلالتها او أو بهدف تعضيدها " ([27])  

                       



                      [1]  هادي نهر, تكامل العلوم اللغوية , وتذاخل الأنواع الأدبية, مؤتمر تذاخل الأنواع الأدبية, مج 2 , ص 794, 49.

                      [2]  عز الدين المناصرة , علم التناص المقارن (نحو منهج عنكبوتي تفاعلي) دار المجد للنشر والتوزيع , عمان , ط(1) 2006 , ص 73.

                      [3]  هادي نهر’ تكامل العلوم اللغوية وتذاخل الأنواع, ص 795

                      [4]  أحمد مطلوب معجم المصطلحات البلاغية وتطورها, مكتبة لبنان, لبنان . ط2000 , ص264

                      [5]  هيثم هلال ’ معجم مصطلح الاصول , دار الجيل بيروت ,ط (1) 2003 ص341

                      [6]  الصادق قسومة , نشأة الجنس الروائي بالمشرق العربي, دار الجنوب, تونس, ط(1) 2004 ص 100

                      [7]  رامي فواز أحمد المحمودي, النقد الحديث والأدب المقارن, دار الحامد عمان, ط (1), 2008 ص 287

                      [8]  جليلة الطريطر, مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث, مؤسسة سعدان للنشر, ج1,ج2 , 2004 , ص 72

                      [9]  صادق محيل الموسوي, قضية الاجناس الأدبية في الأدب , مقال على الرابط:

                      http://WWW: diwanalarab.com//spip.ph.partiche.2621

                      [10]  شكري عزيز الماضي, محاضرات في نظرية الأدب دار البعث للطباعة و النشر, الجزائر ط (1) 1984, ص77

                      [11]  عبد البني اصطيف, نظرية الأجناس الأدبية , مقال على الرابط :

                      http://www.diawanalarab.com

                      [12]  عز الدين المناصرة , علم التناص المقارن , ( نحو منهج عنكبوتي تفاعلي) , ص46

                      [13]  محمد مندور, الأدب وفنونه ,نهضة مصر,ط5, 2006.ص 20

                      [14]  هدى أبو غنيمة, تمرد النص على الشكل, شرفة الهذيان لإبراهيم نصر الله نموذجا, مؤتمر تذاخل الانواع الأدبية

                      [15]  أبو هلال العسكري, الصناعتين (الكتابة والشعر) , تح: مفيد قميحة, دار الكتب العلمية, بيروت  ,ط(2) , 1989, ص 179

                      [16]  أبو الحسن حازم القرطاجني, منهاج البلغاء وسراج الأدباء, تح :محمد الحبيب بن الخوجة دار الكتب الشرقية , لبنان , 1966, ص12, 13

                      [17]   ينظر قدامة بن جعفر, نقد الشعر, تح: محمد عبد المنعم خفاجي, دار العلمية, لبنا, ط, دت , ص 95-138

                      [18]  عبد الحفيظ زرقاط , الأنواع الأدبية بين تداخل الأنواع الأدبية , تداخل الأنواع الأدبية أعمال مؤتمر النقد        الدولي الثاني عشر, نبيل حداد ومحمود دراسة مج (1) ط(1), 2009 , ص 884, 885

                      [19]  محمد القاضي, الخبر في الأدب العربي (دراسته في السردية العربية), كلية الآداب منويه, تونس, ط (1) 1998, ص 38

                       [20] المرجع نفسه , ص38

                      [21]  نفسه , ص40

                      [22]  فيصل الأحمر’ دائرة معارف حداثية, دار الأوطان , الجزائر, ج(1) ,2009 , ص79

                       [23]  محمد مندور, الأدب وفنونه, ص40-60

                      [24]  المرجع نفسه, ص 28

                       [25]  محمد غنيمي هلال , الأدب المقارن, نهضة مصر للطباعة و النشر, القاهرة , ط2001 ص118

                      [26]  محمد مفتاح إستراتيجية التناص الشعري , دار التنوير للطباعة والنشر, بيروت , ط(1) 1985 , ص131

                       [27]  المرجع نفسه , ص 121.