التطور التاريخي للعلاقات الدبلوماسية.

مرت الدبلوماسية بعدة مراحل تاريخية ساهمت في تطويرها وتقنينها حيث عرفت الدبلوماسية تطورا ملحوظا من فترة ومنية الى أخرى الى أن وصلت الى ما هي عليه اليوم حيث تتميز بكونها أكثر تنظيما من حيث العمل والممارسة كما أنها تخضع لقانون ينظم كيفية قيامها وسنتناول فيما يلي أهم المراحل التاريخية التي مرت بها العلاقات الدبلوماسية.

الدبلوماسية في العصور القديمة والوسطى

تعتبر الدبلوماسية من ناحية الظهور التاريخي قديمة قدم الانسان والحضارات، وهي من أقدم الوظائف التي عرفها الانسان حيث كان الهدف الأساسي منها هو حاجة الانسان لأخيه الانسان من أجل تنظيم المصالح المتبادلة وتحقيقها، خاصة في ظل الظروف التي عرفتها العصور القديمة التي كانت تتميز بالصراعات والتناحر.

فقد أدركت الشعوب البدائية بالفطرة جدوى تحقيق المصلحة المشتركة باللجوء الى الطرق السلمية عن طريق المفاوضات وعقد الاتفاقيات، وأدى ذلك الى ظهور بعض القواعد تمثلت في أن ارسال البعثات في هذه المرحلة اقتصر على القيام بالتباحث حول أمور المصاهرة والزواج بين القبائل هذا بالنسبة الى القبائل البعيدة، أما القبائل القريبة فكانت الدعوة الى عقد اجتماعات عامة بهدف التباحث حول عدة شؤون منها الصيد، ممارسة الشعائر الدينية، الأعياد وغيرها من الشؤون اليومية التي تخص القبائل.

واذا أخذنا على سبيل المثال وليس الحصر أهم الحضارات في العصور القديمة نجد:

الدبلوماسية في الصين:

عرفت الدبلوماسية تطورا واكب تطور العلاقات بين الجماعات والبيئة المحيطة بها والتي لم تكن مقتصرة على العلاقات الحربية والنزاعات فحسب، بل امتدت للعلاقات السلمية التي كانت تتم عبر مبعوثين خاصين يقومون بمهمة الاتصال والتمثيل والتفاوض ويتوصلون لعقد الاتفاقيات والتحالفات. ومن أهم حجج الفلاسفة الصينيين في مرحلة الدبلوماسية القديمة أنهم كانوا يرون بأن أفضل طريقة لدولة ما لممارسة نفوذها في الخارج هي تطوير مجتمع أخلاقي جدير بالتقليد، حيث تميزت الصين دائما في علاقاتها الخارجية مع العالم الخارجي بالدفاع عن حدودها ضد الهجمات أو التدخلات الأجنبية، واستقبال مبعوثين من الجيران بدلا عن المغامرة في الخارج بنظامهم السياسي وممتلكاتهم الامبراطورية.

الدبلوماسية في الحضارة الإغريقية:

تعد الحضارة الاغريقية عند الكثير من الكتاب أنها بداية عهد الدبلوماسية المنظمة، فقد أتاح وضع المدن اليونانية المجال لظهور التمثيل والممارسة الدبلوماسية، إذ كان نظام المدينة يقوم على أساس وجود العديد من الدول المتجاورة التي ترتبط بروابط مشتركة فيما بينها، حيث كان الاتصال يجري بين هذه الدول من خلال رسول يتم تعيينه خصيصا لهذه المهمة، وأحيانا أخرى من خلال منادي الملك الذي شكل الصورة الاولى للتمثيل الدبلوماسي والذي أطلق عليه الدبلوماسي المنادي، أو عن طريق الخطباء، وكان يتم اختيار المبعوثين من بين الخطباء والفلاسفة والحكماء.

الدبلوماسية في الحضارة الرومانية:

لطالما عرفت الحضارة الرومانية بالنزعة العسكرية حيث تميزت العلاقات الرومانية مع غيرهم باستعمال القوة والحروب بدلا عن استخدام الوسائل الدبلوماسية(الحوار، النقاش، والتفاوض...الخ). وعلى الرغم من الممارسة الدبلوماسية في زمن الامبراطورية الرومانية إلا أن ذلك لم يمنع ظهور بعض الممارسات التي ساهمت في تطوير العمل الدبلوماسي على غرار انتشار وظيفة أمناء المحفوظات المدربين الذين انصب عملهم على دراسة الوثائق والاتفاقيات الدولية.

الدبلوماسية في عهد الدولة البيزنطية:

تميزت الدولة البيزنطية بالضعف من الجانب العسكري، لذلك فضلت الاعتماد على الدبلوماسية لمواجهة الأخطار والتهديدات من قبل الشعوب المحيطة بهم (العرب والفرس)، حيث لجأ البيزنطيون الى استخدام المفاوضات في علاقاتهم الخارجية، وأيضا انتهاج المكر والخديعة والحلبة لإضعاف أعدائهم عن طريق اثارة بعضهم ضد بعض، وخلق أسباب التنافس والتناحر وهذا يتطلب قدرة عالية من الفطنة وتقديم الحجج والبراهين وهذه المهمة اقتضت وجود جهاز دبلوماسي متمرس في جميع المعلومات، وتقضي أخبار الأعداء، هذا الأمر أدى الى خروج الدبلوماسية من مهامها المتعارف عليها الى نشاط تجسس بعيد كل البعد عن مميزات الدبلوماسية، هذا الأمر جعل الدول الأجانب ينظرون الى الدبلوماسي على أنه جاسوس يعمل لصالح دولته، بعدما كان الدبلوماسي ذو قيمة ومكانة خاصة.

الدبلوماسية في العهد الاسلامي:

بدأت الدبلوماسية تتطور أكثر مع ظهور الاسلام، حيث يعتبر الاسلام من أهم الديانات التي كرست مبادئ السلام والتعاون والتعاهد ونبذ العنف والحرب، وقد خلف قيام الدولة الاسلامية اهتمامات جديدة سياسية واجتماعية ودينية، حيث أخذت السفارات مظهرا جديدا بهدف نشر رسالة الاسلام حيث ومنذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، نظم المسلمون علاقاتهم مع غيرهم من الأمم والشعوب والقبائل سواء في حال السلم او الحرب تنظيما رائدا مع مراعاة مع كان مألوفا من قيم العلاقات الدولية والتي تتماشى مع مبادئ الدين الإسلامي الجديد آنذاك.

الدبلوماسية في العصور الحديثة

الدبلوماسية الحديثة أو الدبلوماسية الدائمة، لأن هذه المرحلة تميزت بالاستقرار، والثبات، حيث أصبحت الدبلوماسية الدائمة مهنة نتيجة لاستمرار تبادل العلاقات بين الدول وكذلك التمثيل الدبلوماسي بينهم، هذا الأمر جعل من الدبلوماسية تقوم على مبادئ وأسس ثابتة. وأهم المراحل التاريخية التي مرت بها الدبلوماسية هي:

الدبلوماسية قبل الحرب العالمية الأولى:

ارتبط تطور الدبلوماسية بمرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى مع تطورات التي حصلت في أروبا وقيام النهضة الصناعية وما نتج عنها من تطورات اقتصادية وسياسية، وتغيير النظرة حول المصالح الاقتصادية والسياسية، وهذا الأمر ساهم بشكل كبير في تشكيل مرحلة جديدة من الدبلوماسية، بدأ العمل الدبلوماسي فيها يستقر كمهنة تقوم على قواعد وأسس ثابتة والدبلوماسية الحديثة نشأت منذ منتصف القرن 15م بين مدن وامارات ايطاليا الشمالية، نتيجة ظهور البرجوازية التجارية وقيام النهضة العلمية والفكرية، حيث لعبت فنيسا أو جمهورية البندقية دورا هاما في ارساء قواعد الفن الدبلوماسي طيلة الفترة الممتدة من القرن 15 الى غاية القرن 18م، وذلك نتيجة للقوة الحربية التي كانت تتمتع بها، حيث أخذت أيضا دعائم السلام التي ظلت قرونا طويلة تسيطر على ربوع القارة الأوربية.

- معاهدة وستفاليا ودورها في تكريس أسس الدبلوماسية:

نتيجة للتصادم الديني الذي وقع بين الكاثوليك بزعامة اسبانيا والبروتستانت بزعامة فرنسا، هذا النزاع الديني أدى الى ما يعرف بحرب الثلاثين عاما التي بدأت عام 1618 وانتهت عام 1648 خلفت هذه النزاعات والصراعات الطويلة حروبا دامية حالت دون تقريب وجهات النظر للحد من هذه الحروب، الى أن تم توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648، في مونستر وستفاليا(ألمانيا)، حيث كانت هذه المعاهدة سببا في انهاء حرب الثلاثين عاما وسميت بمعاهدة السلام حيث كان لها أثر ايجابي ودور هام في اقرار التوازن الدولي والأوربي خاصة في تلك المرحلة، كما نجحت في وقف الحرب الدامية التي دامت ثلاثين سنة وخلفت الكثير من الخسائر البشرية بالإضافة الى الفقر والمجاعة، وكانت معاهدة وستفاليا بداية لعهد جديد في العلاقات الدولية.

وتبنت معاهدة وستفاليا أهم أسس ومبادئ التمثيل الدبلوماسي:

الدولة المستقلة: وجود دولة مستقلة التي تعد أساس قيام العلاقات الدولية، وهي دول مستقلة ذات السيادة التي تستطيع اقامة علاقات دولية.

المساواة: أقرت معاهدة وستفاليا المساواة بين الدول المسيحية والدول البروتستانتية في الحقوق والواجبات.

السفارات الدائمة: احلال نظام السفارات الدائمة، محل نظام السفارات المؤقتة الذي كان متبعا وقد يساعد هذا على قيام علاقات دولية دائمة.

وضع القواعد والاسس القانونية: حيث تم وضع الأسس والقواعد التي تسري عليها الدول منذ معاهدة وستفاليا وأصبحت هذه القواعد هي القاعدة التي تسري عليها الدول وتنتهجها في اقامة العلاقات الدولية، ومن أجل احداث توازن القوى.

ولم تكن معاهد وستفاليا هي أول وآخر معاهدة بل تعاقبت عليها عدة أحداث دولية أدت الى عقد عدة معاهدات صلح أخرى منها:

- مؤتمر فيينا عام 1815: هي أول مؤتمر جاء بعد معاهدة وستفاليا يبحث في ايجاد السبل لعقد السلام الدائم بين الدول الأوربية لا سيما بعد حروب نابليون، حيث وضع مؤتمر فيينا حد للفوضى والألقاب والمراتب الدبلوماسية، حيث أصبح اجماع حول المصطلحات والتسميات الدبلوماسية كما اكتسبت الخدمة الدبلوماسية أبعادها الخاصة كمهنة مميزة عن غيرها من المهن والوظائف السياسية الأخرى.

- مؤتمر اكس لاشابيل سنة 1818: أهم ما تم تناوله في هذا المؤتمر هو تناول قضية عدم التوازن بين الدول الكبرى خاصة فرنسا.

تطور الدبلوماسية بعد الحرب العالمية الأولى

مؤتمر فرساي عام 1919م بباريس، كما يطلق عليه اسم مؤتمر السلام:

اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى سنة 1914، بين ألمانيا والنمسا والامبراطورية العثمانية وبلغاريا والمجر من جهة وبين دول الحلفاء فرنسا وانجلترا وايطاليا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان من جهة أخرى، حيث انتهت هذه الحرب بفرض خمس معاهدات للصلح على الدول الخمسة المنهزمة، حيث شكل الحلفاء بعد نهاية مؤتمر فرساي لعام 1919م، مجالس عليا للحلفاء تدعهما مؤتمرات للسفراء بصفة دورية لمتابعة تنفيذها لمعاهدات السلام، ومؤتمر فرساي هو المؤتمر الذي أنهى الحرب العالمية الأولى التي دمرت أنحاء كثيرة من العالم في أروبا.

- عصبة الأمم المتحدة:

هي أول منظمة أمن دولية كان الهدف من انشائها الحفاظ على السلام العالمي، تميزت بطابعها السياسي العالمي أنشأت عام 1919م تعد نقطة تحول في تاريخ العلاقات الدولية لأنها فرضت على الدول التنازل عن بعض حقوق السيادة التقليدية، كما وضعت القيود على حق اللجوء الى الحرب لتسوية المنازعات على صعيد العالم من جديد، حيث ظهر على اثرها مبدأ الأمن الجماعي.

ورغم الجهود التي بذلتها عصبة الأمم المتحدة من أجل تحقيق السلم والأمن الدوليين الا أنها فشلت في ذلك وهذا راجع لعدم تطابق وتوافق مبادئها مع أهداف الدول الكبرى التي كانت لها نزعة استعمارية متنامية، حيث تفشت ظاهرة الاستعمارية استنادا الى مبدأ القوة والعلاقات الدولية، فهذه الدول لم تستطع التخلي عن مبادئها القوة في السيادة.

الا أن هذا لم يقف عائقا أمام عصبة الأمم المتحدة حيث عملت مرة أخرى على تقنين العديد من موضوعات القانون الدولي وتنظيم الدبلوماسية حيث شملت على وجه الخصوص مسألة ترتيب المبعوثين الدبلوماسيين ضمن قائمة المسائل التي يجب بحثها.

- اتفاقية هافانا الدولية (20 فيفري 1928م في مدينة هافانا بكوبا):

تعتبر هذه الاتفاقية من بين أهم الاتفاقيات التي تضمنت عدة مواد عالجت القواعد الأساسية للتمثيل والوضع القانوني للبعثات الدبلوماسية.

- كما تعد أول اتفاقية جماعية جمعت وقننت قواعد العلاقات الدبلوماسية والحصانات الدبلوماسية.

وأهم المبادئ التي نصت عليها اتفاقية هافانا ما يلي:

- الممثلون الدبلوماسيون يمثلون حكوماتهم والسلطات الدستورية في بلادهم، ولا يمثلون الأشخاص ورؤساء الدول كما كان سائدا من قبل.

- تبادل التمثيل لا يكون الا بين الدول التي تعترف حكوماتهم بعضها ببعض.

- لا يمنح الممثلون الدبلوماسيون الا الحصانات اللازمة لهم للقيام بأعمالهم الرسمية.(أهم هذه الحصانات هي الحصانة الشخصية – حصانة المقر والممتلكات الخاصة بالبعثة وجميع أعضاءها- حرية الاتصال- الحصانة القضائية- الاعفاء من الضرائب). سنتطرق اليها بالتفصيل لاحقا.

وأهم المحاور التي تناولتها هذه الاتفاقية والتي جاءت في خمس محاور موزعة على 25 مادة هي:

- المحور الأول: يتعلق برؤساء البعثات الدبلوماسية.

- المحور الثاني: يتعلق بأعضاء البعثات الدبلوماسية

- المحور الثالث: يتعلق بواجبات المبعوثين الدبلوماسيين.

- المحور الرابع: يتعلق بالحصانات والامتيازات الدبلوماسية.

- المحور الخامس: يتعلق بإنهاء التمثيل الدبلوماسي.

جدول يوضح تطور الدبلوماسية عبر مختلف المراحل التاريخية
استقبالالدبلوماسية اطار مفاهيمي > التطور التاريخي للعلاقات الدبلوماسية.<سابقموالي >