مفهوم ونشأة نظرية الاحالة
تناولنا في المحاضرة السابقة قواعد الإسناد وأهميتها في القانون الدولي الخاص من خلال دورها في حل التنازع بين القوانين في حكم علاقة قانونية ذات عنصر أجنبي، لكن معرفة القانون المختص بحكم النزاع لا يعني حل النزاع بشكله النهائي لأن القانون الواجب التطبيق حسب قواعد الإسناد قد تحيل الاختصاص إلى قانون آخر بسب اختلاف ضابط الإسناد كالاختلاف بين الجنسية والموطن، وهذا يؤدي إلى ما يسمى في القانون الدولي الخاص بـــ: نظرية الإحالة
تعريف نظرية الإحالة
تعرف الإحالة على أنها هي رفض الاختصاص من قبل القانون الأجنبي الذي عينته قاعدة الإسناد وحولته بواسطة قاعدة الإسناد إلى قانون أجنبي أخر، فالإحالة هي تنازع بين قواعد الإسناد بالتالي تنشأ وتثار مسألة الإحالة عندما لا يتكفل القانون الأجنبي الذي أشارت له قاعدة الإسناد بالتطبيق بإعطاء الحل النهائي للنزاع إنما تحيله إلى قانون أخر قد يكون قانون القاضي أو قانون أجنبي آخر، فهي إذن تعني تخلي القانون الواجب التطبيق بموجب قواعد إسناده عن الاختصاص المسند إليه لحساب قانون أخر، بمعى أخر الإحالة هي تنازع قواعد الإسناد (10)[1].
من خلال التعريف يتضح أن للإحالة مجموعة من الشروط لابد من توفرها وهي:
- اختلاف قواعد الإسناد في قانون القاضي عن قواعد الإسناد في القانون المختص، فنظرية الإحالة تركز على قواعد الإسناد في القانون الدولي الخاص.
- تطبيق القاضي لما تقضي به قواعد الإسناد في القانون المختص.
- تخلي القانون المختص عن اختصاصه لمصلحة قانون آخر سواء كان ذلك القانون قانون القاضي الذي ينظر النزاع، أم غيره من القوانين.
وتطبيق الإحالة من عدمها قائم على طبيعة القانون الأجنبي بالنسبة لقانون القاضي بمعنى:
هل يتم النظر إلى القانون الأجنبي ككتلة واحدة، بمعنى أن القانون الأجنبي هو عبارة عن قواعد موضوعية وقواعد إسناد وبالتالي من الضروري اللجوء إلى قواعد الإسناد أيضا في القانون الأجنبي عند البحث عن حل للقضية.
وهناك من يعتبر القانون الأجنبي عبارة عن قواعد موضوعية فقط كونها هي من تعطي الحلول، وبالتالي لا يتم اللجوء إلى قواعد الإسناد ولا تثار مسألة الإحالة من الأساس، يعني أن الإحالة تثار عندما يجد القاضي نفسه أمام حيرة من أمره حول طبيعة القانون الأجنبي هل هو قواعد موضوعية وقواعد إسناد أم قواعد الموضوعية فقط..
مثال : مثال توضيحي عن مفهوم الإحالة
عُرض على قاضي فرنسي مسألة قانونية تتعلق بأهلية إنجليزي متوطن في فرنسا، برجوع القاضي إلى قواعد الإسناد الخاص بالقانون الفرنسي وجد القاعدة القانونية تقول بأنه وفي قضايا الأهلية القانون الواجب التطبيق هو قانون جنسية الشخص أي هنا لابد من تطبيق القانون الإنجليزي، ذهب القاضي الفرنسي لتطبيق ما أشارت إليه قاعدة الإسناد الخاص به فوجد أن القانون الإنجليزي في قواعد الإسناد الخاص به يقول بأن في قضايا الأهلية يطبق قانون الموطن وبالتالي هو تخلى عن الاختصاص في هذه القضية وأحالها إلى القانون الفرنسي بما أنه قانون موطن الشاب.
نشأة نظرية الإحالة
ظهرت فكرة الإحالة لأول مرة أمام القضاء البريطاني في عام 1841، إلا أنها تبلورت وتطورت واتضحت معالمها أمام القضاء الفرنسي من خلال قضية فورجو في عام 1874، وخلاصة القضية وهو أن فورجو ولد غير شرعي من أصول بافارية[2] توطن في فرنسا رفقة والدته دون أن يكتسب موطنا قانونيا فيها أي دون الحصول على إذن بالإقامة الشرعية لأن القانون الفرنسي كان يتطلب إذنا رسميا من السلطات الفرنسية للحصول على الموطن، وبقي فورجو فيها حتى وفاته عن عمر 68 سنة تارك خلفة ثروة طائلة منقولة من زوجته الفرنسية ولم يكن لديه أولاد.
وبعد وفاته طالب أقربائه من الحواشي بحصتهم من الثروة التي تركها بدعوى رفعت أمام القضاء الفرنسي، وبنفس الوقت ادعت الحكومة الفرنسية بأن هي من لها الحق في تركة الشخص باعتبار أنها وارث لمن لا وارث له كم أنها لا تعترف بالإرث للأقرباء من الحواشي، وبموجب قواعد الإسناد الفرنسية فالقانون المختص في مسائل الإرث هو قانون الموطن القانوني للمورث، وهنا هو القانون البافاري لأن المورث لم يكن له موطن قانوني في فرنسا والمفروض أن تطبق أحكام القانون البافاري ويورث أقاربه من الحواشي.
لكن ونظرا لأن قواعد الإسناد في القانون البافاري تعقد الاختصاص في مسائل الإرث لقانون موقع التركة وهو هنا القانون الفرنسي باعتبار أن تركة فورجو كانت في فرنسا وهنا اصبحنا أمام الإحالة، لذلك فان القضاء الفرنسي قرر أن قواعد الإسناد في القانون البافاري أحال الاختصاص للقانون الفرنسي فقبل الأخير الاختصاص لنفسه، فقضى بذلك القانون الفرنسي وبما أنه هو القانون الواجب التطبيق بعدم أحقية الحواشي في التركة وأن الحكومة الفرنسية هي التي لها حق بالتركة بالاستناد إلى القواعد الموضوعية الفرنسية التي تحكم التركات، وبذلك فإن القضاء الفرنسي أعمل فكرة الإحالة في تحديد القانون الواجب التطبيق على المنازعة.(11)[3]