مخطط الموضوع
- عام
- الموضوع 1
الموضوع 1
المحاضرة الأولى
مدخل إلى النقد الأدبي
تمهيد:
الأدب بطبيعته ينزع إلى الحرية المطلقة و التجديد، واكتشاف آفاق جديدة يحلق فيها و يعبر عنها، والنقد على العكس من ذلك إنه محافظ مقيد، يقف عند حدود دراسة الأعمال الأدبية بقصد الكشف عما فيها من مواطن القوة والضعف، والحسن و القبح،و إصدار الأحكام عليها و تذوق مناحيها الجمالية .
1- النقد لغة:
لم ترد كلمة "النقد" في القرآن الكريم،و لكنها وردت في الحديث الشريف، ومعاجم اللغة و من معانيها:
-النقد:خلاف النسيئة،أي:النقود.ورد في الحديث الشريف أن زيد بن أرقم والبراء بن عازم كان قد اشتريا فضة بنقد و نسيئة،فبلغ النبي(ص) فأمرهما:"أن ما كان بنقد فأجيزوه و ما كان بنسيئة فردوه".
- ويقال النقدان:الذهب و الفضة.
- والنقد:تمييز صحيح الدراهم و إخراج الزيف منها،كالتنقاد والتنقد،و قد نقدها ينقدها نقدا وانتقدها، وتنقدها،إذا ميز جيدها من رديئها.أنشد سيبويه بيتا للفرزدق في وصف الناقة:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة***نفي الدنانير تنقاد الصياريف
- و النقد من نقد الشيء ينقده نقدا إذا نقره بإصبعه كما تنقر الجوزة.
- و النقد من ناقدت فلانا إذا ناقشته في الأمر.
- و النقد بمعنى العيب.ورد ذلك في حديث أبي الدرداء الذي يقول فيه "إن نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك" و معنى نقدتهم أي عبتهم واغتبتهم.
إذن فقد ظل معنى كلمة (نقد) يدور في مفهومه حول نقد الدراهم،وتمييز جيدها من رديئها،ثم نجد مفهوما آخر انتقل من تمييز الدراهم إلى الطعام وذلك عن طريق انتقائه و اختياره.
لقد استخدمت لفظة(النقد) بالاستعمالين الآتيين:
- تمييز الجيد من الرديء.
- إظهار العيب و المساوئ.
ثم أخد الشعراء يرددون مفهوم النقد في أشعارهم،فهذا أحدهم يقول:
إنَّ نقد الدينار على الصي***رف صعبٌ فكيف نقد الكلام
و هذا آخر يقول:
رب شعر نقدته مثلما ين *** قد رأس الصيارف الدينارا
النقد اصطلاحا:
لعل المعنى اللغوي الأول أنسب المعاني و أَلْيَقِها بالمراد من كلمة "النقد" في الاصطلاح الحديث من ناحية،و في اصطلاح أكثر المتقدمين من ناحية أخرى.ففيه معنى الفحص والموازنة و التمييز و الحكم.
يحاول قدامة بن جعفر( ت337ه) في كتابه" نقد الشعر" تحديد مفهوم النقد في مقدمة الكتاب فيقول "و لم أجد أحدا وضع في نقد الشعر و تخليص جيده من رديئه كتابا، وكان الكلام عندي في هذا القسم أولى بالشعر من سائر الأقسام".
و يوضح الصولي(ت335ه) مفهوم النقد حين يعلق على البحتري فيقول: "هذا شاعر حاذق مميز ناقد،مهذب الألفاظ".
و إذا استعرضنا جملة الأخبار السابقة تبين لنا أن نقد الشعر و تمييزه قد أصبح واضح المعالم في القرن الثالث.لقد وقف النقاد عند لفظة "نقد" محاولين تعريفها تعريفا اصطلاحيا، وجميع هذه المحاولات اختلفت لفظا واتفقت معنى.من ذلك مثلا:
-النقد دراسة الأشياء و تفسيرها و تحليلها و موازنتها بغيرها المشابهة لها أوالمقابلة،ثم الحكم عليها ببيان قيمتها و درجتها. أو هو التقدير الصحيح لأي أثر فني و بيان قيمته في ذاته ودرجته بالنسبة إلى سواه.
-و النقد في أدق معانيه هو فن دراسة الأساليب و تمييزها و ذلك على أن نفهم لفظة الأسلوب بمعناها الواسع، وهو منحى الكاتب العام،و طريقته في التأليف، والتعبير والتفكير والإحساس على السواء.
-أو هو مجموعة الأساليب المتبعة(مع اختلافها باختلاف النقاد) لفحص الآثار الأدبية والمؤلفين القدامى والمحدثين بقصد كشف الغامض و تفسير النص الأدبي و الإدلاء بحكم عليه في ضوء مبادئ أو مناهج بحث يختص بها النقاد.
الأدب لغة:
في لسان العرب أصل الأدب الدعاء، و منه قيل للصنيع يدعى إليه الناس مدعاة ومأدبة. والأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس،سمي أدبا لأنه يؤدب الناس إلى المحامد و ينهاهم من المقابح،و في الحديث عن ابن مسعود" إن هذا القرآن مأدبة الله في الأرض فتعلموا من مأدبته".وتأويل الحديث أنه شبه القرآن بصنيع صنعة الله للناس،لهم فيه خير ومنافع،ثم دعاهم إليه.
والأدب الظرف و حسن التناول. وأدّبه: علّمه فتأدب: و الأدب –بالفتح- العجب، وأدب البحر كثرة مائه.و الذي يفهم من هذا أن المادة ترجع إلى "الأدب" وهو الدعوة إلى الولائم ومنه أخذ مصطلح "الأدب" إذ كان داعيا على المحامد والفضائل.
الأدب اصطلاحا:
و كلمة "أدب" من الكلمات التي تطور معناها بتطور حياة الأمة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار المدنية و الحضارة. و قد اختلفت عليها معان متقاربة حتى أخذت معناها الذي يتبادر إلى أذهاننا اليوم، وهو الكلام الإنشائي البليغ الذي يقصد به إلى التأثير في عواطف السامعين سواء أكان شعرا أم نثرا.
هو الكلام الإنشائي البليغ الذي يقصد به التأثير في عواطف القراء والسامعين،سواء أكان شعرا أم نثرا،و هو في أدق معانيه:الصياغة الفنية لتجربة إنسانية.
علاقة الأدب بالنقد:
يبدأ النقد وظيفته بعد الفراغ من إنشاء الأدب،فالنقد يفرض أن الأدب قد وجد فعلا ثم يتقدم لفهمه وتفسيره و تحليله و تقديره،و الحكم عليه بهذه الملكة التي تكون لملاحظاتها قيمة و أثر في النص والقارئ و المبدع.
ومن الناحية التاريخية نرى أن الأدب أسبق إلى الوجود من النقد،و هذا يعني أن الشاعر الأول قد سبق إلى الوجود الناقد الأول، أيّا كانت طبيعة هذا النقد من انطباعية تأثرية أو علمية دقيقة.والأدب يتصل بالطبيعة اتصالا مباشرا،على حين يراها النقد من خلال الأعمال الأدبية التي ينقدها.ثم إن الأدب ذاتي من حيث إنه تعبير عما يحسه الأديب و عما يجيش في صدره من فكرة أو خاطرة أو عاطفة.أما النقد فذاتي موضوعي:فهو ذاتي من حيث تأثره بثقافة الناقد و ذوقه ومزاجه و وجهة نظره.و هو موضوعي من جهة أنه مقيد بنظريات وأصول علمية.
فالأدب أسبق إلى الوجود من النقد،و هذا يعني أن الشاعر الأول قد سبق إلى الوجود الناقد الأول سواء كان نقده سلبيا يقف عند تذوق الشعر فحسب،أو إيجابيا يتجاوز ذلك إلى التعبير عن انطباعاته و التعليل لها. وإذا كان الأدب يتصل بالطبيعة اتصالا مباشرا.و النقد يراها من خلال الأعمال الأدبية التي ينقدها.
مؤهلات الناقد:
النقد في ذاته قديم قدم الإنسان الذي خلق نزاعا إلى الكمال، و من ثم منقادا بطبعه إلى إدراك ما في الأشياء من وجوه كمال يستريح إليها،و وجوه نقص يسعى إلى كمالها.
ولا بد للناقد أن يتسلح بإحدى الذخيرتين: الذوق و الثقافة قبل أن يتصدى للعمل الفني بالنقد أو الحكم عليه. أو أن يجمع بينهما.
الذوق: و الذوق في معناه الحسي:علاج للأشياء باللسان لنعرف طعمها،ثم انتقلت الكلمة بعد ذلك إلى علاج الأشياء بالنفس لتعرف خواصها الجميلة أوالذميمة،فهو أداة الإدراكات التي تثير في نفس المتذوق لذة فنية.
يعرف ابن خلدون (الذوق) بأنه موضوع لإدراك الطعوم. إن الناقد الذي يمتلك الموهبة قادر على أن يحكم على العمل الفني.و الموهبة هي ذلك الاستعداد الفطري عند الإنسان وقدرته على التفاعل مع القيم الجمالية في الأعمال الفنية، و مقدرته على فهم العمل الفني وتحليله من جميع جوانبه، وإمكانيته في إصدار الحكم.و الذوق من أساسيات النقد الأدبي ومن معاييره الهامة التي تعتمد اعتمادا كبيرا عليه.و يقسم الآمدي(ت371ه) الذوق ثلاثة أقسام:
الطبع: هو ما طبع عليه الإنسان و فطر. و الطبع: الطبيعة و السجية.
الحذق:هو ما اكتسبه الإنسان بالدربة و المران و دائم التجربة و طول الملابسة.
الفطنة:في اللغة كالفهم،و ضد الغباوة،و هي هنا الجمع بين الطبع والحذق.والناقد الفطن أقدر على التمييز والحكم من الناقد المطبوع أو الناقد الحاذق.
و قد نبه القدامى إلى ضرورة توفر الذوق لإدراك العمل الفني،و اكتشاف جوانبه الجمالية. يشير عبد القاهر الجرجاني(ت471ه)"إن هذا الإحساس قليل في الناس (...) و لا تستطيع أن تقيم الشعر في نفس من لا ذوق له".لأن كشف أسرار العمل الفني،و تذوق الجمال فيه لا يكون إلا في" من كان ملهب الطبع حاد القريحة" والقريحة هنا تعني الذكاء.و قد ذهب المتخصصون في علم النفس إلى تحديد مفهوم الذوق بأنه:قوة يقدر بها الأثر الفني، أو هو ذلك الاستعداد الفطري و المكتسب الذي نقدر به على تقدير الجمال والاستمتاع به ومحاكاته بقدر ما نستطيع في أعمالنا وأفكارنا و أقوالنا. وقد قسم كثير من النقاد الذوق إلى ذوقين:خاص وعام.
الذوق الخاص:
هو الملكة و القدرة النقدية الناتجة عن الاستعداد الفطري،أو هو ذلك الاتجاه الذي يعتمد على ميول الإنسان الفردية في حكمه على العمل الفني،من خلال إدراك جوانب الجمال لهذا العمل دون تأثر بعوامل خارجية مهما كانت. ونعني بدلك إصدار الحكم على العمل الفني من خلال الذوق الخاص دون الاعتماد على المقاييس النقدية،و دون التأثر بالمدارس النقدية.الذوق العام:
هو مجموع تجارب الإنسان و طول ممارسته و عمق خبرته و حصيلة تكوينه الفكري،التي يفسر بها العمل الفني،و يميزه و يحكم عليه،من خلال حسه وإدراكه ويسمى حينئذ الإدراك الصحيح أو الحس السليم. يقول ابن خلدون:"إن الذوق ملكة إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع و التفطن لخواص تركيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان،فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان و لا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها" و ينصب حديث ابن خلدون عن الذوق العام بقوله: "ومن عرف تلك الملكة- أي الذوق- من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء إنما حصل أحكامها كما عرفت،و إنما تحصل هذه الملكة بالممارسة و الاعتياد والتكرر لكلام العرب".
الثقافة:
تعد الثقافة من أهم أدوات الناقد،و نعني بها تلك المعرفة التي يحصل عليها الناقد من خلال:دراسته وتجربته و خبرته و دربته و ممارسته و سعة اطلاعه على المدارس والنظريات والاتجاهات و الثقافة المحيطة بالأعمال المراد نقدها ومعايشة تلك الأعمال والأعمال المشابهة لها،إلى جانب معرفة العلوم المساعدة التي قد تتصل أو تضيء جوانب غامضة من تلك الأعمال ناهيك بضرورة الوقوف على آراء السابقين والمعاصرين. و قد نبه العلماء على الاعتداد بالطبع و الذكاء و ضرورة إضافة الثقافة الواسعة.يقول الجاحظ:"طلبت علم الشعر عن الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه،فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يحسن إلا إعرابه،فعطفت على أبي عبيدة،فوجدته لا ينقل إلا فيما اتصل بالأخبار،و تعلق الأيام و الأنساب فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب:كالحسن بن وهب و محمد بن عبد الملك الزيات".
و يقول الجمحي:"و للشعر صناعة و ثقافة يعرفها أهل العلم بالشعر و أحق الناس بتقديره ونقده في رأي الجاحظ".
و هكذا نجد القدامى قد ركزوا على ضرورة الجمع بين الذوق و الثقافة من أجل دراسة العمل الفني دراسة وافية شاملة و إبراز الجوانب الجمالية فيه.
و قد حاول بعض الدارسين تحديد ثقافة الناقد في ثلاثة مجالات من المعرفة: المجال اللغوي، المجال الأدبي، المجال العام.
*المجال اللغوي:
المراد بثقافة الناقد اللغوية معرفته بعلوم اللغة صرفها و نحوها و بلاغتها وعروض الشعر وقوافيه، فيعرف الحال و مقتضاه و التقديم و التأخير،والذكر والإيجاز وغيرها من العلوم اللغوية.و من هنا نرى بأن للنقد صلة وثيقة بعلوم اللغة .
*المجال الأدبي:
و أما ثقافة الناقد الأديبة فالمراد بها أن يعرف الناقد عصور الأدب معرفة كاملة وخصائص كل عصر،و أدب أعلامه البارزين من الشعراء و الكتاب والأجناس الأدبية التي شاعت فيه...و أن يعرف أثر الزمان و المكان في ثقافة الشاعر و الكاتب،و نشأة كل فن أدبي وتطوره على مر العصور.
*مجال الثقافة العامة:
المراد بها إلمام الناقد ببعض العلوم و المعارف التي لا غنى عنها لباحث متعمق ودارس جاد، مثل علم المنطق، حتى يعرف المقدمات و ما تؤدي إليها من نتائج.و أن يعرف شيئا غير قليل من علم الجمال و أن يعرف الكثير عن التاريخ العربي و الإسلامي و العصر الحديث ويعرف مبادئ علم الاجتماع. و قد أورد النقاد العرب الكثير من جوانب معرفتهم بالنواحي الاجتماعية و النفسية حين تحدثوا عن دواعي الشعر و الأوقات التي يسرع فيها أتيه،و ينقاد عصيه،و عن أسباب لين شعر بعض الشعراء و وعورة شعر الآخر،و أثر البداوة و الحضارة في السهولة والصعوبة،و في اللين و التوعر. يقول القاضي الجرجاني:" و قد كان القوم يختلفون في ذلك ،و تتباين فيه أحوالهم،فيرق شعر أحدهم،و يصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره،و إنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع، وتركيب الخلق،فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع،و دماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة،و أنت تجد ذلك في أهل عصرك و أبناء زمانك،و ترى الجافي الجلف منهم كز الألفاظ وعر الخطاب".المحاضرة الثانية
النقد الأدبي الحديث
النقد الأدبي الحديث إذًا، هو تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفنون عامة أو إلى الشعر خاصة ويقصد به القدرة على التمييز والقدرة على التفسير والتعليل والتحليل والتقييم، وهي خطوات لا تغني إحداها عن الأخرى وهي متدرّجة على هذا النسق كي يتخذ الموقف نهجًا واضحًا مؤصلًا على قواعد جزئية أو عامة مؤيدًا بقوة ملكة الإبداع بعد ملكة التمييز.
شروط أضافها المحدثون:
أما الدارسون المحدثون فقد رأوا وجوب توفر شوط أخرى يتحلى بها الناقد في تناوله العمل الأدبي و منها:
- الذكاء:
أو الخبرة :و ذلك أن يكون الناقد ذا معرفة واسعة بالفن الأدبي الذي ينتقده ثم بما يلابسه من فنون و موضوعات أخرى،لأن النقد الأدبي لا تتضح قضاياه و لا تستقيم أحكامه حتى يعتمد على مقاييسه الخاصة. و من نواحي الخبرة أن يكون الناقد مطلعا على عصر الأديب و مكانه وسيرته و لا مناص من تعرف ذلك لفهم الأدب،و تعليل ظواهره،و سلامة النقد من الظلم.
- المشاركة العاطفية:
و تسمى التعاطف،و المراد بها أن يكون الناقد ذا قدرة على النفاذ إلى عقول الأدباء، ومشاعرهم،يحل محلهم و يأخذ مواقفهم أمام التجارب التي بلوها،والفنون التي عالجوها.و في هذا المقام يطالب أحمد الشايب الناقد أن ينسى ما استطاع،كل ما يحول دون اتحاده بالأدباء،ينسى ميوله الخاصة و ذوقه،ينسى ما قد يكون في نفسه من قيم و أفكار عنهم لئلا تسبق فتؤثر في تصوير آثارهم و قدرها،ينسى عصبيته الجنسية أو القومية أو الحزبية.
-الذاتية أو الفردية:
و يقصد بها أن يضيف الناقد إلى ذكائه و مشاركته العاطفية للعمل الأدبي،مقياسه الدقيق الخاص به الذي لا يصرفه عن سلامة الحكم و الإنصاف في التقدير،و هذا المقياس الخاص مزيج من الذوق السليم و المعرفة الشاملة،أو هو المواهب النفسية التي تتلقى آثار الأدب مجتمعة فتتذوقها وتحكم عليها.و فائدة الذاتية أن تهب لآراء الناقد قوة العقيدة،و ثقة اليقين،و الابتكار و الجدة والطرافة.
و خلاصة القول أن خصوصية الطاقة النقدية خصوصية كاملة،و اكتسابها لا يحدث بالتلقين والتعلم. إنما تكتسب هذه الطاقة متى توافرت شروطها الذاتية.
النقد بين العلم و الفن:
اشتد الخلاف بين النقاد حول طبيعة النقد الأدبي و تصنيفه بين العلم أوالفن،فمنهم من رأى أن النقد مسألة ذاتية خالصة تعتمد على ما تبعثه النصوص في نفوس القراء من انفعالات، وما تؤثر في أذواقهم من آثار مقبولة أو منكرة،و هذه النفوس و الأذواق مختلفة باختلاف الأفراد،على أن هذه الأذواق تستحيل مع الأيام وسعة الثقافة،و استحالة الحياة الطبيعية والاجتماعية، فتصبح أحكامها معرضة للتناقض،و معنى ذلك تعدد الأحكام بتعدد النقاد،ثم تغيرها بتغير الأحوال،و ليس هذا من طبيعة العلم. و لذلك وجب أن يوضع للنقد قواعد ومقاييس علمية تستعين بجملة من العلوم المختلفة و تضع لنفسها مناهج تسترشد بها في دراسة العمل الفني دراسة موضوعية بعيدا عن الذاتية و الأهواء الشخصية.على أن هذه القواعد النقدية التي يسترشد بها النقاد حين ينهضون بوظيفتهم لا يمكن مطلقا أن تخلق الناقد البارع ما لم يكن من طبعه أساس خلقي و طبع و عبقرية موهوبة.
النقد بين الذاتية و الموضوعية:
لقد بذلت جهود و محاولات لجعل النقد الأدبي علما كسائر العلوم الطبيعية،مهمته تشريح النص عبر قوانين عامة مستمدة من العلوم في أغلب الأحيان و منذ القديم وجدت قواعد لضبط القول الأدبي و تصنيف أنواعه،سيما في الشعر. و لقد تبين لنا حتى الآن أن النقد لا يمكن أن يكون من العلوم التجريبية كالطبيعة والكيمياء و لا من العلوم الرياضية كالحساب والهندسة والجبر، لعل الحائل الرئيس ودون ذلك أن هذه العلوم موضوعية تتناول الأشياء و المقادير كما هي في دقة براءة من سلطان الأمزجة و العواطف،و لكن النقد فيه جانب موضوعي عام يتصل بالمسائل النحوية و البيانية و بمقدار من الذوق العام،و فيه جانب ذاتي يعتمد حتما
على الذوق الخاص ..لذلك خرج النقد الأدبي من دائرة العلوم الخالصة،ثم حاول أن يكون فنا خالصا فما استطاع،إذ الفن يمثل الذاتية الخالصة.
لهذا لا نستطيع أن نعد الكتابة النقدية كتابة لها علميتها و حياديتها،فالجانب الذاتي فيها أمر طبيعي،يستطيع أن يهب النص النقدي حيوية و جاذبية،خاصة إذا استطاع الناقد إقامة توازن بين انفعالاته و وجدانه و بين معارفه و الأسس النظرية التي ينطلق فيها العمل الفني،فلا يسقط ذاته على النص الأدبي ليمنع استقلاليته وقراءته من الداخل،فنقرأ أعماق الناقد و رؤاه أكثر مما نقرأ أعماق النص و رؤى الكاتب.
وظيفة النقد:
يمكن تلخيص أهمية النقد و وظيفته و غايته في النقاط الآتية:
*دراسة العمل الأدبي و تمثله و تفسيره و شرحه،و استظهار خصائصه الشعورية والتعبيرية،و تقويمه فنيا و موضوعيا.
*تعيين مكان العمل الأدبي في خط سير الأدب،و تحديد مدى ما أضافه في التراث الأدبي في لغته و في العالم الأدبي كله.و معرفة مدى جدته من عدمها.
*تحديد مدى تأثر العمل الأدبي بالمحيط ومدى تأثيره فيه،هذا من الناحية التاريخية،أما من الناحية الفنية،فإنه من المهم معرفة ماذا أخذ هذا العمل الأدبي ومدى استجابته للبيئة.
* يفسر النقد الآثار الأدبية و يبين الأصول اللازمة لفهمها،و الوجوه التي تفهم عليها و هو بذلك ييسر قراءتها على الناس و يصل بينهم و بين الشعراء و الكتاب الذين ربما لا يعرفون لولا النقاد و لهذا تتمكن منزلتهم في النفوس،و يشتركون في بناء الحياة الاجتماعية،مؤثرين و متأثرين.
* لا يقف النقد الأدبي الخلاق عند بيان المساوئ و المحاسن،و إنما يتعدى ذلك إلى اقتراح ما ينهض بالأدب و يوسع من آفاقه إلى فنون جديدة و أساليب ممتعة..المحاضرة الثالثة
المناهج السياقية
تأثر النقاد العرب بالنقد الغربي الحديث:
أثر النقاد العرب بالنقد الغربي الحديث تأثّر العرب بالنقد الأدبي السائد لدى الغرب في العصر الحديث، وما عاصره أهله من انفتاح على الشعوب الأخرى واختلاط الأجناس وتبادل الثقافات، فانتهجوا مناهجه التي بدت مختلفة كلية عن العملية النقدية التي كانت سائدة في العصور السابقة لدى العرب، فقد أصبحت له قواعد وأصول منهجية تقصر هذا العلم على الدارس المتخصص في علوم الأدب صاحب النظر الثاقب والاطلاع الواسع والموهبة النقدية كما بيّنَها تعريف النقد الأدبي الحديث.[٣] واستقى العرب كثيرًا من المُصطلحات النقديّة المستخدَمة لدى الغرب، فقاموا بتعريبها أو ترجمتها أو الإبقاء عليها كما هي، وأخذ النقاد ينظرون في النصوص الأدبية نظرة كلية تشمل العمل الأدبي بكل ما فيه من عناصر أساسية كاللغة والأفكار والعاطفة والصورة الفنية، وعملوا على الكشف عن مزايا العمل الأدبي الدفينة وتفسير الانفعالات التي مر بها الأديب إثر إنتاجه لعمله الأدبي بوصفها العامل الأساسي لتكوينه، كما اختلفت النظرات النقدية وتعددت فظهر العديد من المناهج النقدية المختلفة التي تأثر بها الأدب والأدباء على حد سواء.
مناهج النقد السياقي: هي تلك الممارسة النقدية التي تقارب النص الإبداعي· معتمدة في ذلك على المؤثرات الخارجية (سو اء أكانت تاريخية، أو نفسية، أو ، واحتضنت 6 ميثيودينية، أو اجتماعية) والتي أحاطت بميلاد النص الشعري 7 تكونه، فكان لها التأثير المباشر أو غير المباشر .
بناء على ذلك، فالنقد السياقي إضاءة للنص الإبداعي من الخارج، وذلك باستثمار كل ما يحيط بالنص من سياقات تاريخية، واجتماعية، ونفسية، لما للنص من شبكة علاقات بينه وبين تلك السياقات، لأن النص مثلما يتولد من ذات مبدعه فإنه يخضع للمؤثرات الثقافية، والحضارية التي توجه رؤية المبدع، وبالتالي تكون تلك الموجهات الخارجية سبيلا لفهم النص الإبداعي والكشف عن أسراره، الأمر الذي يجعل الآليات المنهجية لمقاربة النص تختلف من منهج سياقي لمنهج آخر، غير أن الغاية من الدراسة ليست البحث في الآليات وإنما الكشف عن الأسس والخلفيات التي يستند إليها النقد السياقي.
الأسس الفلسفية للنقد السياقي: كل رؤية في الوجود إلا وتستند إلى خلفية فلسفية، تحدد مسارات التفكير، وتضبط مجالات الر ؤية وآفاقها، ومثلما تتعلق تلك الرؤية بالحياة وما يعتريها من تغيرات فإنها ترتبط بالفن والإبداع وما يتولد عنه من مواقف نقدية، إذ الفلسفة ثاوية في عمق كل تفكير إنساني، ولذلك فكل بناء معرفي يجب أن يستند إلى خلفية فلسفية، تحدد منطلقاته، وترسم أهدافه وغاياته، ومن تلك المعارف الإنسانية التي تستند في مقولاتها ومنظورها النقدي على جملة من الفلسفات تبرز المناهج النقدية التي سايرت الظاهرة الإبداعية وكانت معها في سجال دائم، ويمكن أن نؤسس لعلاقة المناهج النقدية بالأسس الفلسفية بهذه المقولة لــــ " لوسيان غولدمان »
يقول "لوسيان غولدمان": «إذا كانت الفلسفة أكثر من مجرد تعبير تصوري عن مختلف رؤيات العالم، وإذا كانت خارج خاصيتها الأيديولوجية، تحمل أيضا بعض الحقائق الجوهرية المتعلقة بعلاقات الإنسان مع الناس الآخرين، وعلاقة الناس مع الكون، فإن هذه ، الحقائق يجب أن توجد بالضبط في قاعدة العلوم الإنسانية وبالخصوص في مناهجها» وعليه تبرز العلاقة بين المناهج النقدية وخلفيتها الفلسفية، وذلك ما سنحاول الكشف عنه فيما يتعلق بالمناهج السياقية. إن أهم الخلفيات الفلسفية التي يستند إليها النقد السياقي تتمثل في:
1 /فلسفة العلوم التجريبية : هي الفلسفة التي تتخذ من الواقع الخارجي أساسا لبناء الأحكام، وتـ مستندة إلى التجربة العلمية في وضع مبادئها وإقامة تصوراا، وقد وضع مبادئ التجريبية كل من "دافيد هيوم" و "جون لوك" و "هوبز" و "ليسينج"، و«اعتمدت على الحواس في إيصال المعرفة، وبنت قضاياها على التجربة، فالحواس منافذ المعرفة وا نرى الأشياء، ونسمعها، ونشمها، ونذوقها، ونلمسها، فتنطبع صور المحسوسات في الذهن، وتتولد منها ، ذلك أن التجربة تستند إلى ما هو ملاحظ ومشاهد، وقابل للقياس، وهو المسعى الذي تجسد في منظور النقد السياقي.
عمل رواد النقد السياقي على تحويل الشروط التجريبية المتعلقة بعلوم المادة من فيزياء وكيمياء، ومن علم الأحياء إلى ميدان النقد الأدبي، وذلك باستثمار كل ما يمكن أن يفك لغز الأدب، وقابل لأن يكون عينة تجريبية، ومنه «كان السبب في ازدهار المناهج السياقية في ميدان النقد الأدبي، رغبة كثير من مفكري القرن التاسع عشر ونقاده في أن يجعلوا النقد علميا بمعنى الكلمة، وذلك لسببين: الأول أم كانوا معجبين بدقة العلوم الطبيعية ويقينها، وكانت النظرية المسماة بالوضعية تشيد بالعلم بصفته أعظم إنجازات العقل الإنساني، ، 15 وأكثرها اتساقا، والثاني أم كانوا رافضين للأحكام المغرقة في الذاتية والانطباعية» وعليه فالنقد السياقي يفتح سجل حياة المؤلف، وظروف بيئته، وما فيها من تغيرات سياسية، وثقافية، واجتماعية ليقيم أحكامه النقدية، إذ يصبح ذلك السجل بمثابة عينة تجريبية قابلة للملاحظة، والقياس، وتسمح بإصدار الأحكام العلمية حولها، شأن التجربة العلمية مع ما بينهما من فروق تقرب الحكم النقدي من العلمية وتبعده عن الذاتية، لأن التجربة الإبداعية إنسانية بطبيعتها، ولن تسلم قيادها للشروط الصارمة للتجربة العلمية مهما حاول النقاد ذلك.
2 /الفلسفة الوضعية إن استناد المناهج السياقية إلى أصول المنهج التجريبي من وصف وملاحظة و استنتاج، ووضع قوانين رياضية تضبط الشروط التجريبية، وتعبر عن النتائج المتحققة، يؤكد الصلة الوثيقة بين هذه المناهج والوضعية الفلسفية. جاءت الوضعية معززة لما قامت عليه التجريبية، واستبعدت كل تفكير لا يستمد عناصره الأولى من الحس والتجربة، ولذلك فالأفكار في الوضعية لا تظل شتاتا مبعثرة في الذهن، بل ترتبط بقانون التداعي، الذي يعد معادلا في أهميته لقانون الجاذبية » تطور الفكر الإنساني من منظور "أوغست كونت" فيلسوف الوضعية من الطور اللاهوتي (حيث يرجع تغيير الظواهر إلى قوى خارقة وكائنات فوق الطبيعة) إلى الطور الميتافيزيقي (حيث استبدلت القوى الخارقة إلى قوى مجردة تقدر على صنع كل الظواهر)، ثم الطور الوضعي، حيث انصرف التفكير من المطلق إلى الانشغال بدراسة الظواهر والبحث عن القوانين التي تحكم تلك الظواهر، وتكون الملاحظة والاستدلال هما سبيل معرفة تلك القوانين.
أثرت الوضعية في الإبداع الأدبي ونتج عن ذلك المذهب الطبيعي مع "إيميل زولا" ومن نحا نحوه في مجال الرواية والمسرح، وقادت الشعر إلى"البرناسية" التي مهدت السبيل أمام الشعر الرمزي والشعر التصويري، وبالمقابل «أثرت في النقد وقادته إلى ، والتي تجعل العمل الأدبي واقعة يمكن تفسيرها من خلال 19 التاريخية أو الواقعية النقدية» ما يرتبط ا من بيئة، وجنس، وعصر.
وذلك ما جعل النقد السياقي يركز على ما ينطوي عليه النص من قيم جذورها ممتدة في الواقع الثقافي، والاجتماعي، والنفسي، حتى يتسنى له الإحاطة بالتجربة الإبداعية، لأا ليست فعلا معزولا عن السياقات المحيطة ا، ومنه توصل النقاد السياقيون إلى «تقطيع النص إلى شكل ومحتوى، ويصرفون النظر عن الشكل ويقلبون في المحتوى، بحثا هناك عن مواد اجتماعية، وتاريخية، ولغوية، ودينية، وسياسية، وأيديولوجية، ومأثورات شعبية» ، إذ الأدب من منظور الفلسفة الوضعية «ليس شيئا مستقلا، وإنما نتيجة 20 ، ولدراسته وإقامة الأحكام النقدية حوله يجب ربطه بعلم الاجتماع، 21 أسباب غير أدبية» وعلم وصف الأجناس البشرية، وعلم النفس والفيزياء، وحتى الميتافيزيقا، ولذلك يأتي الأدب في الفلسفة الوضعية محددا دائما من الخارج، وهو المرتكز النقدي الذي ينطلق منه الدارسون للأدب من منظور سياقي.
3 /الفلسفات الاجتماعية والنفسية من الفلسفات الحديثة التي كان لها الدور الأساس في بلورة المفاهيم التي تأسس عليها النقد السياقي تبرز الفلسفة الاجتماعية، وفلسفة التحليل النفسي، فمن التحليل النفسي استعار النقد السياقي الفروض الأساسية عن عمل اللاشعور، وكيف يعبر عن رغباته الكامنة بالتداعي، وعن عمل الأحلام استعار فكرة النماذج العليا، أو محتوى اللاشعور الجمعي، ومن علم النفس الجماعي عند الجشطالتيين أخذ فكرة الكليات، ومن علماء النفس التجريبيين استمد المقدمات التجريبية عن السلوك، ومن علم النفس الإكلينيكي استقى المعلومات المتعلقة بالتعبيرات المرضية للعقل الإنساني، ومن علم النفس الاجتماعي تعرف على طرق الكشف عن سلوك الإنسان في الجماعات والمجتمعات الكبرى، كما استفاد مما تقدمه العلوم النفسية والعصبية المتصلة بعلم الغدد الصم.
واستعار النقد الأدبي الحديث في صورته السياقية من الفلسفات الاجتماعية عند « دوركايم" و "أوغست كونت" نظريات ومقدمات عن طبيعة المجتمع، والتغير الاجتماعي، . والصراع الاجتماعي، وصلة هذه بالأدب والظواهر الثقافية الأخرى ومن الفلسفة الماركسية استقى العلاقة الجدلية بين البنيتين الفوقية والتحتية، وأن الأدب في حقيقته انعكاس ولا يمكن فهم إحدى البنيتين في غياب الأخرى ولذلك «أصبحت الماركسية منذ بداية القرن التاسع عشر تمثل الأساس الصلب للتصور التاريخي للأدب ، من منظور شيوعي على أقل تقدير.
» ومن الفلسفة الوجودية استمد فكرة الالتزام التي ترى أن الأدب التزام بقضايا المجتمع، وأن المبدع قائد فكري في مجتمعه، وبالتالي فهو ملزم بقضايا الصراع الداخلي في مجتمعه، أو الصراعات الخارجية التي تواجهه، وعليه«اعتبرت الوجودية أن المشتغل بالفكر الأدبي إبداعا ونقدا، لا يستطيع بحال أن يتخذ موقفا سلبيا منها (أي من تلك الصراعات)، ولا أن يهرب من أداء وظيفته، وتحمل مسؤوليته تجاهها» وذلك ما يؤهل إبداعه للتعبير عن تلك الصراعات، وما يمنح الناقد فرصة الإمساك من خلال إحاطته بالسياقات المولدة للإبداع وهو يحاكم النص، لأن علاقة الإبداع بالنقد في الفلسفة الوجودية محكومة بثنائية الحرية والمسؤولية، وذلك أساس الحكم على الأعمال الأدبية، إذ «تتحدد أقدار الناس وقيمهم طبقا لمدى قدرتهم على صناعة مشروعاتهم في الحياة، وطبقا لنوعية المواقف التي يتخذونها أثناء صياغتهم لهذه المشروعات ، ومنه يكون الناقد الوجودي مرتبطا بقيم الحياة، ويكون نصه سجلا لتلك المواقف.
المحاضرة الرابعة
المناهج السياقية:
المنهج التاريخي
تمهيد:
الأدب مصدر تاريخي هام للوقائع و الأحداث التاريخية حيث ينقلها و يتأثر بها , فهو لسان الأمة يعبرعن حياتها الاجتماعية و السياسية .
النقد الأدبي من أصعب فنون الإبداع و أهمها فهدفه تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية و الموضوعية و الشعورية و التعبيرية, و لقد تولى اهتماما كبيرا فهو يتعامل مع النص الأدبي فيحدد مدى جودته و جماله أو أماكن الضعف و الرداءة به.والنقد يرفع من قيمة الأدب , لأن الكاتب سيعلم أنه يوجد هناك من سيراجع أعماله و يدقق نصوصه .
المنهج هو صلة وثيقة بين الأدب و التاريخ فهو مرتبط بالأحداث التاريخية و الوقائع وتفاعل الأدب و هذا من الناحية و من ناحية أخرى التاريخ مادة هامة من مواد الأدب وأهم بواعثه .
المنهج التاريخي في النقد الأدبي :
يعتبر المنهج التاريخي من أقدم المناهج التي أولت اهتمامها في دراسة الأدب منذ ولادته و تطوره عبر الزمن و كل مراحل نموه.
يعمل الناقد الأدبي في المنهج التاريخي على تحديد العلاقة بين الأديب و المجتمع المحيط به ، و مناقشة كل الأفكار و الآراء التي تناولت العمل الأدبي .و أهم ميزات المنهج التاريخي في النقد الأدبي تأكيد صحة الأعمال الأدبية و صحة أصحابها المنسوبة إليهم، فهو حصيلة العلاقة القائمة بين التحليل و وسائل البحث و التدقيق، وذلك لما يطلبه الموضوع مع إمكانية الاستعانة بعلوم مساعدة بهدف الوصول للمعرفة.
أي نستطيع القول أن هذا المنهج يلقي الضوء على المعارف الخارجية في الدراسات الأدبية لتهيئة الحقيقة ،ولا بد من ذكر أن هذا المنهج لا يستقل بنفسه فلابد من التذوق من "المنهج الفني" فنحن بحاجة دائمة للحكم الفني إلى جانب الحكم التاريخي فمثلا : عند دراسة الأطوار التاريخية لموضوع معين في الأدب فسنقوم بجمع جميع المعارف و النصوص و المصادر و ترتيبها ترتيب تاريخي و نسبها إلى كتابها، ومن ثم سنجمع أراء النقاد و المتذوقين على اختلافهم ، و سندرس البيئة و كافة العوامل التي رافقت هذا العمل، ولكن لا بد لنا من تذوق ما جمعناه و هذا ما يدعى المنهج الفني المرافق للمنهج للتاريخي .
مبادئ المنهج التاريخي في النقد الأدبي :
يقوم المنهج التاريخي في النقد الأدبي على المبادئ التالية :
1. اعتبار النص الأدبي وثيقة لمحيطه والربط الآلي بينهما .
2. التدقيق على الأعمال الأدبية و النصوص التي تمثل مرحلة تاريخية يتم دراستها, و إضافة لذلك الاهتمام بدراسة المدونات الأدبية العريضة.
3.البحث في تاريخ الأمة السياسي و الاجتماعي، لفهم الأدب وتفسيره و دراسة مراحل نموه و تطوره، ولفهم كل الطرق التي يسلكها الأدباء في الأدب .
4. الدراسة التاريخية للكتاب تبين لنا الأوضاع السياسية و الدينية والاجتماعية ، فمن خلالها نستطيع تحديد أن هذا الكتاب حقا نتجية بيئته ،و ذلك لأن النص هو ثمرة كاتبه و الأديب نتاج ثقافته .
عيوب المنهج التاريخي في النقد الأدبي :
أ- الاستقراء الناقص الذي يؤدي إلى حكم ناقص ، بسبب الاعتماد على الحوادث الظاهرة و التي لا تعبر عن الحالة الطبيعية ، فالذي نراه نحن كافي للإعطاء الحكم قد يكون غير ذلك ، فبسبب انجذابنا الخاص به جلعنا نراه دلالة كافية . و كي لا نقع بهذا الخطأ يجب علينا جمع جميع الظواهر و الدلائل و المسانيد قبل اطلاق أحكامنا.
ب- الأحكام الجازمة في المنهج التاريخي خطرة أيضا ،فهي لا تسمح بإمكانية تصحيحها و نقدها ، لأن جميع المستندات و النصوص التي يتم البحث عنها تاريخية و لا نملك كافة الوثائق عنها، و لذلك فإن الأحكام الجازمة القاطعة تسبب الكثير من الأخطاء ، فيتوجب علينا ابقائها مفتوحة أمام ظهور أي وثائق جديدة تخص البحث .
ج- المبالغة في التعميم العلمي ، فبعد تطبيق الطرق العلمية في البحث و انتصار المذاهب العلمية على الأدبية ،و بعد تطبيق نظرية دارون على البحث الأدبي، فأصبح يعامل الأدب كأنه من الكائنات الحية المتطورة من حال إلى أخر، و هذا خطر كبير لأن الأدب غير العلم ،الأدب قصة مشاعر و أحاسيس فلا تتماشى أطواره مع نظرية التطور المنتظم .
د- إلغاء قيمة الخصائص و البواعث الشخصية و تعد من أخطر مخاطر المنهج التاريخي ، أي إغفال العبقرية الشخصية و مدى تأثيرها في البيئة، فلكي يتم تصوير الأدب بصورة حقيقة يجب إدراك أهمية العنصر الشخصي ومزاجه على الطبيعة الأدبية و الحقيقة الفنية .
ج- التفسير الظاهري و العام للنصوص الأدبية، دون التعمق في باطنه لاستخراج جماليته و تأثير ابداعه.
د- إغفال الناحية الفنية للأبحاث ، و هذا خطأ فهو يركز على صلة الموضوعات بالتاريخ و تأثيرها على البيئة .
ذ- يقتضي على هذا المنهج دراسة الأدب بكل زوايا، فلا يخلط بين أصالة الفرد و أصالة الجماعة، ويجب أن نجد المشترك بينهما فالفرد يتأثر بالتيار العام ولكن لا يندمج به .
النتائج الأساسية التي ترتبت على المنهج التاريخي للنقد الأدبي :
1- ضرورة تقسيم الإنتاج الأدبي إلى شعر و نثر ، وملاحظة الفوارق بين الأطياف الأدبية و تنوعها إلى شعر مسرحي و غنائي و ملحمي و كتابات سردية وقصصية ومسرحية وروائية فإن دراسة هذه الأنواع الأدبية المختلفة و تطورها من الوسائل الهامة للمنهج التاريخي في النقد الأدبي ، في حين كان علم التاريخ يقدم نموذج نظري جامد .
2- ضرورة تنظيم الفترات الزمنية و كتابة تاريخ الأدب، فالتاريخ الأدبي نفسه يدين هذا المنهج لأنه أصبح نموذج تقليديا ، فمثلا الدارس عند كتابة موضعه سيبدأ من خارج الأدب مرددا الأقوال التاريخية بسبب تبعية الأدب للأحوال السياسية و الاجتماعية و من ثم يبأ بالظاهرة الأدبية التي هي أساس بحثه .
تطوير المنهج التاريخي للنقد الأدبي عند طه حسين :
كان ل طه حسين أهمية كبيرة في تطوير "المنهج التاريخي للنقد الأدبي" و لكن العوامل التي وقفت في وجهه :
1- محاولة التوثيق : حاول الكاتب طه حسين مزاوجة منهج غربي نتاج ثقافة مختلفة مع منهج عربي و ذلك بالهدف الوصول إلى منهج حديث دون التخلي عن القواعد العربية الأساسية، فقد عاش صراع كبيرا لتحقيق ذلك .
2- اعتماده من أجل الوصول للمعرفة على المنهج الديكارتي القائم على الشك ، والذي جعل من كتابته ذات طابع تاريخي أكثر من نقدي و ذلك بسبب عدم مراعاة الخصوصية في المادة الأدبية التي تختلف عن الحوادث و الوقائع التاريخية.
و أخيرا: هناك أعلام كثيرون برزا في المنهج التاريخي للنقد الأدبي ذكر منهم "لانسون" و الذي يعتبر "طه حسين" تلميذه الأول و "سانت بوف" و "تين" وغيرهم. شدد رواد هذا المنهج على البعد الإيديولوجي في النتاج الأدبي ،أي أن الكاتب الملتزم لا يكتفي فقط بنقل حالة المجتمع و مناقشة سلوكه و قضاياه بل يجب أن يقدم تصوره الخاص الذي يعبر عن الجماهير و يحكي طموحاتهم بالحياة الرغيدة.
المنهج الواقعي
تمهيد:
كثيرة هي المذاهب الأدبية التي تُناقش في كتب الأدب والنقد، وتلك المذاهب وُضعت بناء على أسس متعددة تتعلق بالأديب من جهة، وبفكرة العمل الأدبي من جهة أخرى، وربما بالنقد الأدبي نفسه من جهة ثالثة، ومن المذاهب التي انتشرت في العصر الحديث وعلى أثر ظهور الآداب العالمية كان المذهب الواقعي في الأدب، وفي البحث عن تحديد مفهوم المذهب الواقعي في الأدب، سيجد القارئ اختلافات كثيرة بين العلماء والنقاد حول تعريف واضح له. السبب في ذلك أن المذهب تعددت تياراته واتجاهاته وصارت له مفهومات عدة، ولكن يُمكن وضع الخطوط العريضة فيما يخص المذهب الواقعي، حيث إن الواقعية تعني المعرفة العقلانية للحياة، أو هي طموح العقل الإنساني وتطلعه لاكتشاف حقيقة الحياة ومعرفة خفايا العالم، وإدراك قوانين تطور المجتمعات واتجاهاتها والآلية التي يعيشها المجتمع الإنساني.[1]
ممّا هو مهم في مفهوم الواقعية أنّها تهتم بمعرفة الطبيعة الإنسانية خصوصًا، وعلاقة الإنسان الفعلية بالعالم الواقعي المحيط به، وأنّ المذهب الواقعي أسهم في اكتشاف قوانين وحقائق جديدة للحياة أغنت وأثرت الواقعية النقدية واتجاهاتها وأشكالها، إذ إنّ العالم كلّه يكون مادة للتصوير والتعبير، وبذلك تتسع الرؤيا وتتعمق وتكون أكثر نضجًا وصدقًا لأنها متصلة بالواقع.
والواقعية في الأدب تعني الموضوعية، وتصوير الحياة الواقعية تصويرًا فوتوغرافيًا بعيدًا كلّ البعد عن عناصر الخيال والتشويق والمجاز، وبذلك تكون الواقعية فيها موضوعية صارمة، تمنع تسرب أيّ عاطفة للكاتب، إنما تسلّط اهتمامها على حياة الشعوب والمجتمعات كما هي وبنظرة موضوعية بعيدة عن الانطباعات الذاتية.
1. نشأة المذهب الواقعي في الأدب:
إنّ الحديث عن الواقعية هنا يُقصد به دراسة الأعمال الأدبية ومقاربتها نقديًا على أنّها نتاج للواقع الطبيعي أو الاجتماعي أو التاريخي، وهذه الدراسة تكون من خلال معايير مُحدّدة من قِبَل الفكر الغربي، إذ إنّ نشأة المذهب الواقعي تعود للفكر الماركسي، وقد عُرف هذا التيار في تاريخ النقد الحديث بأسماء عدة تؤدي المعنى ذاته، منها: النقد الاجتماعي، أو النقد الأيديولوجي، أو النقد اليساري، أو النقد الاشتراكي، أو النقد الماركسي أو الديالكتيكي أي: الجدلي.[2]
إنّ نشأة المذهب الواقعي في الأدب جعلت الكثير من النقاد والمهتمين بدراسة الأدب ينظرون إليه على أنّه النقد الصحيح للأعمال الأدبية، وكل ما عدا ذلك هو خاطئ، حتى أنّ هذا التيار انتقل إلى الأوساط النقدية العربية في القرن العشرين على مدى عقدين كاملين وهما الخمسينات والستينات، وقد هيمن هيمنة تامة على ساحة النقد العربي، إلى أن نظر الكثيرون إليه على أنه هو النقد فقط.[3]
ممّا يجدر ذكره أنّ هذا التيار الواقعي الذي غزا الأوساط العربية كان متناسبًا مع فترة التغيرات الاجتماعية والتاريخية في تلك المناطق، فكما حصلت تغيرات في البيئة الاجتماعية والتاريخية، حصلت في ساحتي الأدب والنقد، ووصل التيار الواقعي الماركسي إلى أغلب البلدان العربية، وبيّن الكثير من النقاد المهتمين بهذا التيار أهمية دراسة الأدب بالنظر إلى العوامل البيئية والتاريخية.
كما وبدأت تختلف وجهات النظر في البيئة العربية نفسها حول الدراسة الواقعية للأدب، فالبعض أراد إدخال العقائد الدينية ودراسة الأدب واقعيًا بناء عليها، والبعض رفض النظر إلى الأعمال الأدبية والأدباء من ناحية عقائدية لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى نوع من التعصب الديني، وهو لا يتناسب مع مبادئ الواقعية التي تتجرد من الانطباعات الذاتية.[4]
2. مبادئ المذهب الواقعي في الأدب:
إنّ مبادئ المذهب الواقعي في الأدب تحددت عبر مراحل كثيرة ومتعددة، وذلك لما مر به هذا المذهب من تطورات عدة، ويمكن الوقوف عند أبرز هذه المبادئ:[5]
- تمثيل الأشياء: المقصود هنا هو أن يكون الأدب ممثلًا للأشياء المحيطة بأبعادها وتفاصيلها الدقيقة، وبجوانبها وأجزائها، حيث تبدو منظورة واضحة ومحددة، وبذلك تبتعد عن الغموض والإيحاء وتكتفي بالصراحة والأسلوب المباشر.
- مزج الحوادث: على أن الواقعية تتّجه إلى الوضوح والدقة، إلا أنّ بعض مبادئها يقوم على المزج بين الحوادث اليومية المألوفة في حياة كل إنسان، مع بعض الحوادث الأخرى التي تكون فيها بعض المبالغة والابتذال، وذلك يظهر في الأدب الإغريقي بوضوح.
- اللغة البسيطة: يسلط المذهب الواقعي الضوء على استخدام اللغة البسيطة السهلة المتداولة، والتي يمكن أن يفهمها الجميع، وذلك لما في هذه اللغة من اقتراب من الواقع وتجسيد له، ومحاكاة صادقة لتفاصيله، إضافة إلى اقتراب العمل الأدبي من حياة المجتمع.
- القضايا الإنسانية: يهتم المذهب الواقعي في الأدب بطرح القضايا الإنسانية والابتعاد عن كثير من القضايا الميتافيزيقية وعلاقة البشر بالقدر، إنما يهتم بتحليل شخصيات الأعمال الأدبية من منظور الإنسانية، وفي ضوء علاقتها بالواقع المحيط.
- الانتقاد الساخر: من المعروف أن الأعمال الكوميدية في معظمها تُحاكي الواقع وتعالج قضاياه، ومن مبادئ الواقعية في هذا الصدد أن يكون هناك روح السخرية الناقدة للمجتمع ومشاكله، وبذلك تخفف من أعباء هذه الحياة عن القارئ.
- تصوير التناقضات: تهتم الواقعية بعرض الحياة بكل تناقضاتها، فليست الحياة حزنًا مطلقًا ولا فرحًا دائمًا، ولذلك تتّجه الأعمال الواقعية إلى عرض الحزن والفرح في المشهد نفسه، والبؤس والسعادة في اللقطة ذاتها، لكي تنقل الحياة كما هي دون تغيير.
3. خصائص المذهب الواقعي في الأدب:
إن المذهب الواقعي يتميز بمجموعة من الخصائص الجوهرية التي تجعله مميزًا عن غيره من المذاهب الأدبية والنقدية، ومن أبرز خصائص المذهب الواقعي في الأدب:[6]
- الحيوية: تتميز الواقعية بحيويتها، إذ إنّها شهدت المذهب الرومنسي، وعاصرت نشأة المذهب الطبيعي، وغيره من المذاهب ومع ذلك لم تفقد قدرتها على التجدد والانبعاث، واستفادت من غيرها من المذاهب التي عاصرتها، وتطورت إلى أشكال متعددة وتيارات مختلفة.
- العالمية: مع أنّ الواقعية كانت في نشأتها نتيجة لظروف المجتمع الأوروبي إلا أنه سرعان ما أصبحت ذات خصائص عالمية شمولية، وذلك نتيجة لما تُنادي به من مبادئ جمالية أساسية، وبذلك تجاوزت الواقعية كل الحدود الإقليمية والتاريخية ووصلت لكل العالم.
- المنهجية: لقد تجاوزت الواقعية حدود كونها مذهبًا مقيدًا بمبادئ وأسس نسبية مرتبطة بظروف محددة، إلى أن تصبح منهجًا حرًا من القيود، في المجالين الأدبي والفني، ولا بد أن تنعكس هذه الحرية على الأدباء الواقعيين في أعمالهم، وعلى النقاد في دراساتهم أيضًا.
- الاستبصار: إن الواقعية لا يمكن أن تقنع بالرؤى الغامضة والضبابية للحياة، إنما تقوم على استبصار الغد بوضوح وصراحة وشفافية، وذلك الاستبصار لا يكون اعتباطيًا، إنما بالاستناد إلى معطيات الحاضر الذي يعيشه المجتمع، وعلى تجارب الماضي التي مر بها.
4. اتجاهات المذهب الواقعي في الأدب:
الحيوية التي تميز بها المذهب الواقعي، والعالمية التي وصل إليها جعله ينقسم إلى عدة اتجاهات، ومن أبرز اتجاهات المذهب الواقعي في الأدب:
1. الواقعية الاشتراكية: تنطلق هذه الواقعية من فكرة أن الأدب ينبغي أن يُدرس من خلال ارتباطه بالواقع التاريخي والاجتماعي، وتُعرف الواقعية الاشتراكية باسم النظرية الماركسية، وهي نظرية تتمحور حول الأساس الاقتصادي للمجتمع.
2. نظرية الانعكاس: أسسها جورج لوكاش، ويريد من هذه النظرية المعرفة الحقيقية للواقع والحياة الاجتماعية، ولكي يكون هذا الانعكاس واضحًا لا بد من صياغته في قالب فني، وبذلك يخفف من صرامة التصوير الدقيق، فهو يهتم بتوضيح آلية المجتمع للقارئ.
3. البنيوية التكوينية: نادى بها لوسيان غولدمان، إذ جمع مبادئ البنيوية إلى مبادئ الماركسية، فرأى أن الأدب يُدرس من خلال فهم عناصر العمل الأدبي، ومن ثم ربط العمل الأدبي بالبنى الفكرية والاجتماعية التي ينطلق منها العمل الأدبي ودراسته في ضوء هذه المعطيات.
4. واقعية أدورنو: كان لأدورنو رأي مختلف عن رواد الواقعية، إذ يرى أن الفن يحمل معرفة متناقضة مع العالم الحقيقي، لكن هذا لا يعني أنه ضد الواقعية، بل يعني أن الأدب يجب أن يكون بمثابة هزّة للرؤية الكلاسيكية للواقع، وخروج عما هو مألوف في الأدب الواقعي.
5. واقعية باختين: إن رأي باخيتن في الواقعية لم يبتعد كثيرًا عن الشكلانية، إذ إنهم نظروا إلى اللغة على أنها أساس العمل الأدبي، واختلف باختين عن الشكلانيين في أنه نظر إلى اللغة والأيدولوجيا كشيء متصل ولا يمكن فصلهما، وأن اللغة هي وسيلة للتواصل والخطاب الاجتماعي.
· أعلام المذهب الواقعي في الأدب:
كثيرة هي أسماء الأدباء الذين كان لهم دور بارز في إرساء مبادئ الواقعية، ومن أعلام المذهب الواقعي في الأدب الغربي والعربي:[7]
-مكسيم غوركي: فقد تمكن مكسيم غوركي أكثر من أي كاتب واقعي آخر من أن يعكس مسائل الصراع والتناقضات بين مختلف طبقات المجتمع، وذلك بأسلوب أدبي لافت، وبِلُغة واضحة، وفهم عميق لمسألة الإنسان والإنسانية.
-ميخائيل شولوخوف: تابع شولوخوف ما بدأه غوركي في مذهب الواقعية، وطوّره حسب متطلبات الثورة الاشتراكية، وقد عكس في أعماله الحياة بكل معضلاتها الجديدة التي تعترض طريق التطبيق الاشتراكي بعد الثورة.
-عمر الفاخوري: عمل الفاخوري كثيرًا لتطوير الأدب الإنساني الواقعي، وقد جمع في مؤلفاته بين الأدب والنضال التحرري ضد العدوان، ولم يكن في كتاباته تقليد لما أُلّف قبله، إنّما اتّسم بالتجديد وبث الروح الحية في هذه المواضيع الواقعية.
-مواهب الكيالي: من الكتّاب الاجتماعيين السوريين الذي اهتموا بقضايا المجتمع، وكرّس جزءًا كبيرًا من حياته للكتابة عن آلام الشعوب، وقد تناول في بعض أعماله الروائية صورًا لنضال الشعب السوري ضد المستعمر الفرنسي، وكان له دور مهم في إحياء الواقعية في الأدب العربي.
-مصطفى الحلاج: تميّزت أعماله بالحديث عن الموضوعات الاجتماعية البسيطة التي قد لا يهتم بها الكثير، إلا أنها تؤثر سلبًا في المجتمعات، مثل الحديث عن كثرة الأولاد في الأسرة الواحدة، وما تؤدي إليه من فقر ومرض وظروف اجتماعية قاسية.
-حنا مينة: كاتب سوري من الطبقة العمالية الفقيرة، وقد خصّص الكثير من نتاجاته القصصية والروائية لتطوير أوضاع طبقة العمال والفلاحين، فقد كان مُجدّدًا في هذه الأعمال؛ إذ عكس معاناة تلك الطبقة والمصاعب التي تكابدها في الحياة الاجتماعية.
-سعيد حورانية: اشتهر هذا الكاتب الواقعي بواقعيته الصارمة، وقد ركز أيضًا على نضال الطبقة العاملة وكفاح الفلاحين، وكان لأعماله خصائص مهمة تميّزَ بها مثل: وحدة اللغة والأسلوب الرشيق والمتناسب مع موضوع النص.
· كتب عن المذهب الواقعي في الأدب:
إن الحديث عن المذهب الواقعي في كتب النقد واسع، ومن الكتب ما تخصصت بالمذهب الواقعي، ومنها ما أدرجته ضمن المذاهب والاتجاهات النقدية الأخرى، وفيما يأتي عرض لمجموعة كتب عن المذهب الواقعي في الأدب: دراسات في الواقعية: مؤلفه جورج لوكاتش، ويدور محتواه حول المثل الأعلى للإنسان، وصراعات الليبرالية والديمقراطية، والسيمياء الفكرية للشخصيات الفنية، وبعدها يعرض آراءه حول الواقعية، ويذكر الرسائل التي دارت بينه وبين آن سيغرز.
منهج الواقعية في الإبداع الأدبي: كتبه الدكتور صلاح فضل، وفيه يتحدث عن النواحي النظرية للواقعية، من حيث: التعريف والنشأة وخصائص الواقعية والأسس الجمالية لها، ثم يتحدّث عن انتشار الواقعية الإقليمي في أوروبا وأمريكا والفوارق بينهما.
الواقعية وتياراتها: للمؤلف الرشيد بو شعير، أيضًا يهتم بالناحية النظرية للواقعية، فيتكلم عن المصطلح وتعريفه، ويفصّل عوامل نشأة الواقعية، ثم يقسّم تيارات الواقعية إلى الطبيعية والنقدية والاشتراكية، ويشرح مبادئ كل تيار بالتفصيل.
نظرية النقد الأدبي الحديث: للدكتور يوسف نور عوض، في هذا الكتاب حديث عن تيارات نقدية عدة مثل: اللسانية والبنيوية، ويتكلم في الباب الأول من الكتاب عن الاتجاهات الواقعية واختلاف آراء أعلامها، كما يهتم بداسة نظرية الانعكاس التي وضعها جورج لوكاتش.
دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي: كتبه حسين مروة، وكان هذا الكتاب تطبيقيًا تمامًا، إذ إنّه عرض مجموعة من الأعمال الروائية والمسرحية والقصصية لمجموعة من أدباء العرب، وتناول كل منها بالنقد والدراسة وفق أسس المنهج الواقعي ومبادئه.
استقبال الآخر: كتبه سعد البازعي، وهو كتاب فكرته الأساس هو كيفية استقبال التيارات والمناهج النقدية الغربية في النقد العربي، ومن بين ما عرضه البازعي كانت الواقعية وكيف استقبلها النقاد العرب وتبنّوا أفكارها ومبادئها. الواقعية النقدية في الأدب: كتبه بيترروف، وترجمه شوكت يوسف، وفيه مفاهيم نظرية تتعلق بالمذهب من حيث الجذور والنشأة والأسس الفلسفية والجمالية للواقعية، كما أنّه يعرض المضمون التاريخي العالمي للواقعية النقدية، ويهتم بالشكل الفني للأدب الواقعي.
[1] الرشيد بوشعير، الواقعية وتياراتها في الآداب السردية الأوربية (الطبعة 1)، دمشق:دار الأهالي، 1996، ص 7. بتصرّف.
[2] سعد البازعي، استقبال الآخر (ط 1)، المغرب:المركز الثقافي العربي، 2004، ص135.
[3] المرجع السابق، ص135.
[4] نفسه، ص135.
[5] ينظر: الرشيد بوشعير ، الواقعية وتياراتها في الآداب السردية الأوربية ، صفحة 7.
[6] صلاح فضل، منهج الواقعية في الإبداع الأدبي (ط 2)، 1980، ص5-6. بتصرّف.
[7] ماجد علاء الدين ، الواقعية في الأدبين الروسي والعربي (ط1)، دمشق:دار رسلان، 2015، ص17-113-190. بتصرّف.
المحاضرة الخامسة
المنهج الاجتماعي
المفهوم:
المنهج الاجتماعي في الأدب هو ذاك المنهج النقدي الذي يدرس و يحلل و يقوم بتأويل النصوص الإبداعية من منظور اجتماعي، بمعنى انه يتعامل مع الظاهرة الأدبية باعتبارها ظاهرة اجتماعية، حيث يسعى هذا الاتجاه التقدي إلى بيان الصــلة بين النص والمجتمع الذي نشأ فيه.
وقد ولد هذا المنهج في أحضان المنهج التاريخي و تطور في سياق تطور الاتجاهات النقدية الحديثة خاصة في النصف الثاني من القرن 20. و من عوامل ظهوره أيضا شيوع الفكر الماركسي و الفلسفة المادية و انتشار الواقعية الاشتراكية مع التقدم الذي عرفه علم الاجتماع في اروبا. و من أشهر أعلام هذا المنهج ومنظريه ماركس- ولوسيان كولدمان إضافة إلى المجري جورج لوكاتش الذي يرى أن الأدب يعكس الواقع الإجتماعي والاقتصادي، ومدام دوستال التي ترى أن الأدب يتغير بتغير المجتمعات وحسب تطور الحرية فهي تتماشى – حسبها – وتطور العلم والفكر والقوى الاجتماعي.
للمنهج الاجتماعي خصائص و أسس تميزه عن باقي الخلفيات النقدية منها:
-يرى أن الأديب هو ابن بيئته لا يعيش معزولا عنها.
-أن الإنتاج الأدبي هو جزء لا يتجزأ عن السياق الاجتماعي والواقع المعيش
-الأدب صورة للمجتمع، و لسانه، ومرآة عاكسة للانتماء الطبقي للأديب.
-الأدب يخاطب المجتمع وهو صورة منه
-هو نقد مضموني أي يهتم بمضمون النص.
-الأدب ناقل ومروج للأفكار السياسية .
-النقد الاجتماعي نقد تفسيري يحاول الناقد من خلاله إبراز الدلالات الاجتماعية أو التاريخية الكامنة في العمل الأدبي
-النقد الاجتماعي نقد تقويمي يعلي من شأن الأديب الملتزم بقضايا أمته.
و بفعل المثاقفة مع الغرب و تطور حركة الترجمة، فقد حظي المنهج الاجتماعي بتجاوب واسع من طرف النقاد العرب في المشرق والمغرب، خاصة في الربع الأخير من القرن 20 ومن أبرزهم : سلامة موسى، لويس عوض، نجيب العوفي، صلاح فضل، حميد لحمداني وإدريس الناقوري و إدريس بلمليح و محمد شكري عياد...
وعموما فقد تعددت مناهج النقد الحديث، ودار حولها نقاش وخلاف، من هذه المناهج: المنهج الاجتماعي الذي نشأ في حضن المنهج التاريخي، وهو منهج يدعو إلى ربط الأدب بالمجتمع، وتقاس جودة المبدع بمدى تصويره لهموم مجتمعه وطبقته تصويراً صادقاً. و هو منهج يعمد إلى قراءة النصوص الأدبية وتحليلها من وجهة تعبيرها عن الإنسان والمجتمع. وبهذا المعنى، فإن علم اجتماع الأدب باعتباره قسما من أقسام العلوم الاجتماعية، يبحث أساسا عن العلاقات التي تربط الإبداع الأدبي بالشروط الاجتماعية المؤطرة له، وذلك عبر التأويل الاجتماعي للإبداع وتتبع الخلفيات الاجتماعية المتحكمة في إنتاجه واستهلاكه، ومدى تعبيره عن الصراع الدائر في المجتمع.المحاضرة السادسة
المنهج النفسي
المنهج النفسي:
عرف المنهج النفسي بأنه منهج يقوم على دراسة الأعمال الأدبية لمعرفة الأنماط والنماذج النفسية الموجودة فيها ، والربط بين الشخصيات الموجودة في الأعمال الأدبية وبين شخصية الأديب ، فقد يقوم الأديب بإسقاط شخصيته على شخصية من شخصيات قصته أو ورايته .
المنهج النفسي في الدراسات الغربية والعربية:
ويعود المنهج النفسي بتاريخه إلى العهود القديمة ، حيث نجد أن أفلاطون قد تحدث عن هذا المنهج ، فقد وجد أن العواطف تأثر على الإنسان بشكل كبير ، ولأن الشعر يحرك عواطف الإنسان فقام بطرد الشعراء من مدينته الفاضلة .
أما في حال عدنا إلى عصر ازدهار الثقافة العربية فسنجد أن للعرب قد تحدثوا بشكل كبير عن هذا المنهج وأول من تحدث هو ابن قتيبة ، ولقد كان ذا خبرة بأحوال النفس فحدد الوقت المناسب لقول الشعر ، حيث وجد أن معظم الشعراء ينظمون شعرهم في أول الليل ، الخلوة ، المسير ، صدر النهار ، وفي الأمراض والعلل .ولم يكن ابن قتيبة الوحيد في هذا المجال فهذا القاضي الجرجاني فقام بتحليل الملكة الشعرية ، وقال بأن الشعر يدل على نفسية وطباع الشاعر ، فمن كان شعره سلسا وسهلا فإن نفسه سمحة ، ومن كان شعره فظا فأن شخصيته فظة ، ومن كان شعره رقيقا فهذا يدل على رقة مشاعره .
وإذا سرنا في النقد العربي فسنجد أن ابن طباطبا قد تحدث عن المنهد النفسي ، ويقول بأن القارئ إن ارتاح إلى النص فهذا يعني أن نفسية كاتبه مريحة .
وعلى الرغم من عدم وجود منهج واضح في الأدب العربي إلا أن النقاد العرب تحدثوا عن المنهج النفسي في أماكن متفرقة من كتبهم .أما المنهج النفسي عند الغرب فلم يظهر إلا في القرن التاسع عشر مع ظهور علم النفس وظهور رائده سيغموند فرويد ، حيث قال فرويد أن العمل الأدبي له هدف وغاية سعى الأديب لإيصالها من خلاله ، فقد يعبر الأديب في أدبه عن رغبات مكبوتة لا يستطيع إشباعها في الواقع ، فيقوم بإسقاطها على شخصيات عمله ، لذلك رأى فرويد أن دراسة شخصية القصة ستدل على حالة الكاتب الشخصية ورغباته المكبوتة ، ويرى فرويد أن مرحلة الطفولة تلعب دورا في حياة الأديب ، فإن عانى من رغبات مكبوتة فإنها ستظهر بشكل جلي في أدبه .
ووافق يونغ تلميذ فرويد أستاذه في بعض الجوانب لكنه رفض مغالاته في حصره الإبداع الفني تحت إطار العقد النفسية .
أما أدلر فخالف فرويد في أفكاره وقال بأن التعلق بالحركة لإثبات الذات هي الدافع الأساسي والمحرك الرئيسي للإبداع في النفس البشرية .
وفي العالم العربي قام مصطفى سويس بتأسيس مدرسة أطلق عليها اسم مدرسة علم نفس الإبداع ، وقام شاكر عبد الحميد بتأليف كتاب أطلق عليه : الأسس الفنية للإبداع الفني في المسرح .
وبعد أن قمنا في جولة تاريخية على المنهج النفسي ، وأبرز أعلامه فإننا سنتحدث فيما يلي على المآخذ والعيوب عليه .عيوب المنهج النفسي:
يعامل المنهج النفسي الأدب الجيد بنفس معاملة الأدب الرديء ، وذلك بسبب نظرته للأدب على أنه وثيقة نفسية فقط لا غير ، تعبر عن رغبات الشاعر أو الكاتب المكبوتة .
يعتمد المنهج على الفرضيات والكشوفات التي يقوم باكتشافها علم النفس ، دون الأخذ بعين الاعتبار أن هذه النظريات قد تكون خاطئة أو لا يمكن تطبيقها على الأديب .
من خلال المنهج النفسي يظهر الأدب وكأنه تعبير عن الحالات الشاذة والرغبات المكبوتة وهذا الأمر غير صحيح .المحاضرة السابعة
المنهج التكاملي
تمهيد:
في زحمة المناهج النقدية المعاصرة، وفي ظل ما تعرضت له الجهود النقدية العربية من اتهام بالميل إلى التبعية التنظيرية للغرب، يظهر المنهج التكاملي ليغطي على بعض النقص الحاصل في الجانب التطبيقي لتلك المناهج، فهو المنهج الذي يحاول أن يأخذ بطرف من مجموعة مناهج، بغرض التخلص من ضيق المنهج الواحد، تارة ومن صرامته تارة أخرى.
وعلى الرغم من عدم اعتراف بعض النقاد بهذا المنهج، على اعتبار أن لكل منهج قواعده وأسسه الخاصة به تميزه عن غيره، أما هذا فخليط منها، فإن آخرين ينظرون إليه بوصفه ضرورة أمام اتساع آفاق النصوص الأدبية، ومحدودية النتائج التي يصل إليها كل منهج منفردا. خصوصا إذا علمنا أن المنهج في حد ذاته وسيلة للتحليل والدراسة وليس غاية يسعى الدارس إلى تحقيقها. وإذا كان تحليل النص في كل حالاته لا يستطيع الادعاء بامتلاك الحقيقة، فإن المنهج أو المناهج المتبعة فيه لا يمكن أن تؤمن الوصول إلى حقيقة النص الأدبي التي ليس بعدها جدل أو شك.
نستطيع القول- والحال هذه- إن المقاربة النصية هي في بعض أوجهها محاولات لها نصيب من الفضل في تقريب النص إلى القارئ بدرجات متفاوتة، ولكنها لا تصل أبدا إلى الكمال أو إلى الاكتفاء ، ولا يخرج المنهج التكاملي عند المؤمنين به عن هذه القاعدة؛ ذلك أنه يحاول أن يقدم رؤية متعددة الأوجه لها ما يجمعها أو ما يوحدها، لتصل إلى تقديم قراءة مقبولة للعمل الأدبي .
ولا ينبغي في هذا المقام أن يُتعصب لهذا المنهج أو أن يعاب على المناهج الأخرى شيء من إجراءاتها أو أدواتها أو تستصغر النتائج التي تصل إليها.. غاية ما يُسعى إليه هو إفساح المجال أمام تلك الأدوات والإجراءات بمختلف توجهاتها لتعالج النص الأدبي تفسيرا أو تأويلا أو تحليلا.
ما المنهج التكاملي؟
التكامل في اللغة هو المشاركة في اكتمال الشيء، والمنهج التكاملي هو المنهج الذي تشترك فيه عناصر من مناهج مختلفة قد تقل أو تكثر بحسب درجة الائتلاف فيما بينها، ولا يقصد به الكمال لأنه لا كمال في ما تعلق بفكر أو علم إنساني مبني على الرأي والنظر العقلي.
يتحدث الدكتور عبد العزيز عتيق عن المنهج التكاملي في إطار حديثه عن المناهج السياقية ، ويعرفه بقوله: “هو منهج يأخذ من كل منهج ما يراه معينا على إصدار أحكام متكاملة على الأعمال الأدبية من جميع جوانبها” [1]، وهو بذلك يقترح إمكانية الجمع بين المنهج التاريخي والفني والنفسي جمعا يمكننا من دراسة النص من زوايا مختلفة. ولعل المنهج الفني بين هذه المناهج ما دفع الناقد إلى تصور إمكانية الجمع بينها، على اعتبار أنه الجانب الذي يلامس النص في ذاته بينما يتناول المنهجان الآخران ما يعلق بالنص من سياقات خارجية .
غير أن التكامل لا يرتبط بالمناهج السياقية وحدها، بل يمكن أن يكون بين منهج نسقي وآخر أو أخرى سياقية. فتجربة لوسيان غولدمان في البنيوية التكوينية تمثل شكلا من أشكال النزوع إلى النقد التكاملي، أو النقد المركب أو التركيبي الذي جاء ردا على أحادية المنهج التي حاولت النظرية النقدية اعتمادها بدء من جهود الشكليين الروس؛ فقد أقر غولدمان بضرورة إدراج السياق التاريخي والاجتماعي والسيرة الذاتية للمنتج إلى جانب بنية النص اللسانية من خلال الآليات التي” تربط بين داخل النص وخارجه مستفيدة من المناهج النقدية الحديثة ومتجاوزة إياها إلى تفسير البنيات الخارجية في المجتمع.” [2]
والمنهج التكاملي يقوم” بتسخير جميع المدارس النقدية المناسبة في تكاملها، وذلك من خلال الاستعانة بأبرز وأهم أدواتها، والاستفادة من أدق أساسياتها قدر الإمكان”[3] إيمانا بعدم قدرة أي منهج بمفرده على دراسة النص دراسة كافية مقنعة، بل قد ” يستعير مجموعة من النظريات المتباينة من العلوم المختلفة، ولكن السمة البارزة لتلك التوجهات تبدو لسانية وأسلوبية أكثر من غيرهما”.[4]
إن المنهج النقدي التكاملي ” هو أداة تستقي قوتها من ممارسة نقدية مركبة، تجمع بين المعطيات الفنية والتاريخية، والأبعاد النفسية، والاجتماعية، والعقدية، أما الشرط الوحيد في بناء هذا المنهج النقدي، فهو الارتكاز على رؤية نقدية شمولية واحدة، والأخذ بكل أداة منهجية صغرى تستجيب لهذه الرؤية وتوظيفها”.[5]
ولقد كان التعامل بهذا النوع من المناهج قائما عند العرب في بداية العصر الحديث، وتذكر بعض المصادر أن السيد قطب هو أول من استعمله أو دعا إليه في كتابة (النقد الأدبي) في النصف الأول من القرن العشرين، كما دعا إليه طه حسين و”سماه المقياس المرّكب وتابعه في هذا الدكتور شكري فيصل في المنهج التركيبي. وحين اكتفى الثاني بالتنظير كان يسعى الأول إلى شيء غير قليل من التطبيق”.[6]
كما نجد نقادا عربا آخرين تحدثوا عنه، منهم عبد القادر القط، وشوقي ضيف و”يعد إبراهيم عبد الرحمن واحداً ممن حددوا عناصره، مثل استناد النص إلى الواقع الذاتي والاجتماعي والطبيعي وانفتاحه على أشياء أخرى ومن ثم إعادة تشكيله فنياً، لأنه قابل للإجراء الفني والنقدي، وغير قائم على التناقض مع المناهج النقدية القديمة والحديثة.”[7]
غير أن كثيرا من النقاد يشددون على ضرورة التسلح بآليات المناهج المختلفة والتحكم فيها وامتلاك القدرة على الجمع فيما بينها عند الاقتضاء؛ فمن غير المنطقي أن يسمى هذا المنهج منهجا إذا لم يكتسب صفة المنهج ممثلة في آلياته النظرية والتطبيقية. وهي في عمومها مأخوذة من المناهج الأخرى، غير أنها تتمتع بخاصية التآلف والتكامل والإحاطة بجوانب النص المختلفة. و لعل هذا الشرط الحيوي يبعدنا عن تسمية (عدم الالتزام المنهجي الذي خلص إليه الدكتور قائد غيلان في وصف الظاهرة النقدية في اليمن بقوله” إن النقاد اليمنيين يلتقون عند نقطة واحدة هي عدم الالتزام المنهجي، والاغتراف بحرية مطلقة من منابع ومناهج شتى؛ تستوي في ذلك الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية. ووَجد كثيرٌ منهم ضالته في المنهج التكاملي الذي يسمح للناقد أن يستفيد من أيٍّ من المناهج أو بعضها وأحيانا كلِّها في وقت واحد.[8] فتسمية (عدم الالتزام المنهجي) قد توحي بالخروج عن المنهج، أو أن المنهج التكاملي لا يحمل صفة المنهج.
كما يساوي بعضهم بين المنهج التكاملي واللامنهج، لأنه عندهم يفتقد إلى عناصر محددة تجعله مستقلا عن أمثاله، وقد وصف اللامنهج عند عبد المالك مرتاض بأنه منهج تكاملي على الرغم من أن تلميذه يوسف وغليسي يوضح خاصية منهج مرتاض بقوله:” هو التطبيق المنهجي المرن الذي يتيح للناقد العربي أن يدخل تعديلات طفيفة على المنهج الغربي استجابة لخصوصيات النص العربي، لا أن يطبقه عليه تطبيقا آليا أعمى”.[9]
وفي نظر محمد عزام” من المستحيل خلط هذه المناهج المتباينة للخروج بفرية منهج تكاملي”[10]، ذلك أن خاصية تناص النص الواحد مع نصوص عدة قديمة وحديثة وتداخله معها يمنع إمكانية نجاح هذا النوع من النقد في الوصول إلى خصائص النص الأساسية وميزاته الخاصة.
مبررات المنهج التكاملي :
يمكننا إرجاع مبررات اعتماد المنهج التكاملي إلى عاملين اثنين:
الأول هو كثرة الانتقادات والثغرات التي سجلت على المناهج الكثيرة المتلاحقة، سواء على المستوى النظري أو على مستوى التطبيق عند الممارسة النقدية، وخصوصا ما تعلق بالاتهامات المتبادلة بين أنصار النسق وأنصار السياق بخصوص قيمة العوامل الخارجية في دراسة النص؛ فسلدن وستروك مثلا يريان في البنيوية ” نزعة مضادة للنزعة الإنسانية، نظرا لمعارضة البنيويين لكل أشكال النقد الأدبي التي تجعل من الذات الإنسانية مصدرا للمعنى الأدبي وأصله.”[11]
أما جوناتان كولر فيعتقد” أن خطيئة السيميوطيقا تتمثل في محاولتها تدمير إحساسنا بالحقيقة في القص.. مع أن هذه الحقيقة تسبق القص في القصة الجيدة وتظل منفصلة عنه.” [12] ويبدو جون إليس مفندا للفكر التفكيكي، ومهاجما أسلوب أصحابه، الذي يتم بالاستفزاز في مهاجمة معارضيهم.”[13]
كما يعتبر أبرامز أن التفكيك لا يضع في اعتباره الطريقة التي نمارسها في تدقيق النصوص، أو ما لدينا من إحساس بأن النصوص ذات تفرد، وكذلك لا يهتم بالطريقة التي تثيرنا، وتبعث المشاعر والانفعالات في الناس.” [14]
ويذهب نقاد عرب إلى انتقاد المناهج المعاصرة، على النحو الذي نجده عند الغربيين، استنادا إلى ما رأوه من نقائص وعيوب في تطبيق هذه المناهج؛ ففؤاد زكريا يرى أن مطبقي البنيوية يتعسفون” في تطبيق النموذج اللغوي على كل مجالات العلوم الإنسانية، وإنكار تعدد النماذج بتعدد ميادين البحث.”وأن ” البنيوية فلسفة تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية”[15] التي لا تصلح إلا لمواجهة القضايا الجزئية الدقيقة ولا تصلح للنظر في المجموع الكلي .
وينظر عثمان موافي في أعمال عبد الله الغدامي النقدية فيجد أن” تطبيقه شابه بعض القصور، نظرا لخلطه بين البنيوية والتفكيكية أو التشريحية طبقا لتعبيره، وبعض الاتجاهات الأخرى.”[16]
أما الثاني فهو البحث عن الآليات التي تدفع إلى تقبل النص الأدبي وإدراك جمالياته وقيمه بعيدا عن التعصب المنهجي الذي يصل أحيانا إلى نوع من الإرهاب المنهجي، ولهذا يطرح حسين جمعة مصطلح القراءة” مصطلحاً منفتحاً بإجراءاته النقدية على المناهج النقدية والأدبية مجتمعة أو منفردة، وعلى تقنياتها؛ فيبيح الشمولية والموازنة والمقارنة.” على اعتبار أن هذه القراءة طريقة فنية تؤدي إلى تأسيس منهج نقدي عربي تكاملي أصيل غير معزول عن المناهج النقدية والأدبية؛ وعن العلوم المساعدة الأخرى”.[17]
وما يعزز هذا التوجه هو عدم قدرة التحليل النقدي بأنواعه الشائعة على الكشف عن جوهر النص الإبداعي كشفا حاسما نتيجة لتعدد عناصره وتعدد مستوياته، فما من تحليل إلا ويلامس جانبا من النص ويهمل أو يغفل جوانب أخرى، بل إن الجوانب المكتشفة لا تتوضح عند كثير من النقاد بدرجة واحدة، إن لم نقل إنها تتناقض في أحايين كثيرة تبعا للزاوية التي ينطلق منها الناقد.
ولا يستطيع أحد من الناس أن يدعي أن المنهج التكاملي يحل هذا الإشكال حلا حاسما، كل ما في الأمر أنه يحاول أن يخفف من حدة الاضطراب الحاصل على مستوى تطبيق المناهج النقدية المختلفة، لأن الجمع بين عدد من المناهج كفيل بأن يجعل بعضها يعاضد بعضا، فما لا ينكشف بهذا ينكشف بذاك.
خــــــــاتمة :
إذا كان القارئ العربي ما يزال يتغنى بخصوصية لغته وتميز أدبه عما لدى غيره، أفلا يمكن أن يكون المنهج التكاملي في النقد الأدبي العربي متناغما مع هذا الاتجاه في قراءة هذا الأدب؟ وإذا كانت غاية النقد أن يكشف عما تعتقد شريحة واسعة من القراء أنه يمثل القيم الجمالية والإنسانية والاجتماعية، أفلا يكون المنهج التكاملي قادرا على القيام بهذه المهمة على أكمل وجه ؟
وبعد كل ما سبق، حري بنا أن ندرك مشكلاتنا النقدية، مقتنعين بأن المناهج النقدية إذا لم تساهم في دفع عجلة الأدب إلى الأمام ، فإنها لا تستحق أن تبذل في شأنها الجهود. ومن بين أهم القضايا التي لا بد من إعادة النظر فيها، والتي تعترض الناقد العربي وهو ينظر إلى الأعمال الأدبية العربية هي التبعية الفكرية لكل ما هو غربي، وينتج عن هذا تبني الفلسفات الغربية المتصارعة بل والمتناقضة أحيانا، وفرضها على الأدب والنقد كأنها قدرهما المحتوم. لقد ظللنا منذ عصر النهضة العربية ننظر إلى الأوروبي خاصة والغربي عامة على أنه المتفوق، بل الحادي الذي لا بد من السير على حدوه، وإلى فلسفته بأنها قمة التطور الفكري، وبانية الحضارة. ثم تبعته نظرة مشابهة إلى أدبه ونقده، فصرنا لا نستطيع الاكتفاء بما لدينا من مقومات التطور والنهوض، بل أكثر من ذلك بتنا نجلد ذواتنا أسفا على أننا وجدنا في بيئة قاحلة من الفكر والإبداع .المحاضرة الثامنة
المناهج النسقية
أبرز المدارس النقدية الحديثة:
تعدّدت الآراء النقدية الحديثة واختلفت نظرًا لاتّساع توجهها وعالمية الأدب وامتزاج الثقافات؛ إذ ظهر إِثْرَها الكثير من المناهج والمدارس النقدية الحديثة التي تعمل هدف واحد رغم اختلاف نظمها وأنساقها الفكرية، ومن هذه المناهج ما يأتي.المنهج البنيوي البنوية لفظة مشتقّة من كلمة "بُنْيَة"، وتشير إلى أنّ أيّ ظاهرة إنسانية كانت أم أدبية تشكّل بنية يمكن دراستها من خلال تحليلها إلى العناصر المكوّنة لها، دون الأخذ في الاعتبار العوامل الخارِجَة عنها، مثل حياة الكاتب ومشاعره، ومن أبرز روّادها من الغرب: رومان ياكبسون، ومن العرب عبد السلام المسدي
-المنهج البنوي
تمهيد :
يعترف جان بياجي , في مطلع كتابه عن (البنوية) , بأنه "من الصعب تمييز البنوية , لأنها تتخذ أشكالا متعددة لتقدم قاسما مشتركا موحدا" ([i]) فضلا على أنها تتجدد باستمرار ([ii]) وأن البنيويين في نظر الآخرين هم "جماعة يؤلف بينها البحث عن علاقات كلية كامنة "([iii]) تستمد روافدها من ألسنية دي سو سير , و أنثروبولوجية كلود ليفي سترواس , ونفسانية جاك لاكان , وحفريات ميشال فوكو التاريخية والمعرفية و أدبيات رولان بارت .... وقد خصص جان بياجيه الفصل الخامس من كتابه (البنيوية ) للبنيوية الألسنية structuralisme linguistique وانتهى إلى أن * البنيوية - على العموم- هي منهج وليست مذهبا. ([iv])
- تعريف المنهج البنوي : ([v])
هو دراسة النظام الخطابي الأدبي وعرفه آخرون بأنه : دراسة نظام العلاقات القائمة بين النظام وعرفه آخرون بأنه نظم العلاقات القائمة بين النظام الخطابي الأدبي ومن ثم تطبيقها على كل ما له علاقة به من ( إنسان , أو كون , أو حياة).
وتعد البنوية منهجا وصفيا يرى العمل الأدبي نصا مغلقا على نفسه , له نظامه الذاخلي الذي يكسبه وحدته , هو نظام لا يكمن في ترتيب عناصر النص كما هو شائع و إنما يكمن في تلك الشبكة من العلاقات التي تنشأ بين كلماته وتنتظم بنيته .
- مؤسسها :
تأسست المدارسة السويسرية التي قد تسمى أحيانا (حلقة جنيف) بزعامة العالم اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure مؤسس اللسانيات الحديثة (linguistique) عبر محاضراته الشهيرة التي كانت عصارة ثلاثة فصول دراسية بجامعة جنيف خلال الفترة الممتدة بين 1906 و 1911 , ثم نشرت عام 1916 , بعد وفاته برعاية تلميذيه : شار بالي (ch . bally) و ألبير سيشهاي ( A . sechehaye ) تحت عنوان محاضرات في اللسانيات العامة cours de linguistique générale وقد شكلت هذه المحاضرات ثورة في الدراسات اللغوية.
- روافدها : تمثلت في
الشكلانية الروسية – حلقة موسكو- جماعة الأبوياز – حلقة براغ – جماعة tel quel
-البنوية في النقد العربي :
تشتق البنوية وجودها الفكري والمنهجي من مفهوم ( البنية ) أصلا , وعلى ضوء هذا المفهوم فإن الجزء لا قيمة له إلا في سياق الكل الذي ينتظمه , إن" المقولة الأساسية في المنظور البنوي ليست هي مقولة الكينونة , بل مقولة العلاقات و الأطروحة المركزية للبنوية هي توكيد أسبقية العلاقات على الكينونة و أولوية الكل على الأجزاء , فالعنصر لا معنى له ولا قوام إلا بعقد العلاقات المكونة له "([vi])
وعلى العموم فإن البنوية منهج نقدي داخلي يقارب النصوص مقاربة آنية محايثة , تتمثل النص بنية لغوية متعالقة و وجودا كليا قائما بذاته مستقلا عن غيره , ومن العرب المتأثرين بالمنهج البنيوي في النقد حسن البنا عز الدين في تحليل بنية الشعر الجاهلي في كتابه *الكلمات و الأشياء* ومحمد بنيس في كتابه * ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب * وقد تعددت الدراسات حول البنيوية و اتسعت لتشمل دراسة كل ماله علاقة بالعقل البشري , ودراسة البنية الصغيرة التي بنية من العقل البشري مما أدى إلى دراسة العلوم والفيزياء , لارتباطها الوثيق بالعقل البشري .
وقد تلت هذه المحاولة الرائدة جهود أخرى تشاطرها المنطلق المنهجي البنيوي على اختلاف آلياته واتجاهاته منها : كتاب أبو ديب كمال (في البنية الإيقاعية للشعر العربي) 1974 , ثم كتابه اللاحق (جدلية الخفاء والتجلي) 1979 , وكتاب محمد رشيد ثابت ( البنية القصصية ومدلولها الاجتماعي) في حديث عيسى بن هشام ,1975 وكتاب ابراهيم زكريا ( مشكلة البنية) 1976 , وكتاب صلح فضل (نظرية البنائية في النقد الأدبي) 1978 ([vii])
وهكذا ازدانت الساحة النقدية العربية المعاصرة , على مدى الفترات المتعاقبة منذ السبعينات , بأسماء بنيوية لامعة تعددت إسهاماتها النقدية , وتنوعت اتجاهاتها المنهجية بين بنوية شكلية وبنوية تكوينية , وبنوية موضوعاتية.
-مآخذ على البنيوية :
1- تكثر من الرسوم البيانية , على حساب التحليل النمودجي , باحداث مكننة للبنية
2- تتجاهل التاريخ وعلاقة المبدع بالنص , وبيئته
تقلل من الذات والوعي , بالانغلاق ذاخل بنية النص وعزله عن سياقاته الاجتماعية والنفسية والتاريخية التي أنتجته([viii])3
- البنيوي في مقاربة موضوعه:
لعل أول خطوة في التحليل هي تحديد البنية أو النظر إلى موضوع البحث كبنية أي موضوع مستقل حيث أن التحليل البنيوي يقف عند حدود اكتشاف هذه البنية في النص الأدبي فحيث يتم التعرف على بنية النص أو نظامه لا يهتم التحليل البنيوي بالعوامل المؤثرة في تشكيله لهذا يرى بارت وتودوروف وهما من أبرز رواد النقد البنيوي أن التعرف على بنية النص مقصود لذاته.
فالتحليل النصي يبدأ من البنية الكبرى وهي تتسم بدرجة قصوى من الانسجام والتماسك. والتماسك اللازم للنص ذو طبيعة دلالية وهذا التماسك يتميز بخاصية " خطية " أي أنه يتصل بالعلاقات بين الوحدات التعبيرية المتجاورة داخل المتتالية النصية.
وتصبح المتتالية متماسكة دلاليا عندما تقبل كل جملة فيها التفسير والتأويل في خط داخلي يعتبر امتدادا بالنسبة لتفسير غيرها من العبارات الماثلة في المتتالية، ومن هنا فإن مفهوم النص تتحدد خصائصه بفكرة التفسير النصي، أي تفسير بعض أجزائه بالنسبة إلى مجموعها المنتظم كليا فالخطوة الهامة في تحليل العلاقة بين الوحدات في المتتالية النصية مرهونة بالكشف عن البنية الكبرى.
المنهج السيميائي
مقدمة:
يجمع معظم الدارسون على ان الارهاصات الاولى لعلم السيمياء يعود الى الحضارة الاغريقية القديمة اي وجود اشارات في الموروث الفكري، ومنه فلقد عرف النقد العربي الحديث والمعاصر مجموعة من المناهج النقدية بفضل المثاقفة والترجمة والاحتكاك مع الغرب من بينها المنهج البنيوي اللساني والمنهج البنيوي التكويني والمنهج التفكيكي وغيرها، حيث اصبح المنهج السيميائي منهجا وتصورا ونظرية وقراءة وعلما يمكن الاستغناء عنه.
1- تعريف السيمياء:
إن مصطلح السيمياتيك مشتق من الاصل اليوناني (سيميو) الذي يعني العلامة ويرجع مصطلح السيميولوجيا الى الألسني السويسري “دي سوسير” الذي كان أول من استعمل كلمة سيمياء لأول مرة في فرنسا أما مصطلح السيموطيقا فيرجع الى الفيلسوف البراغماتي الامريكي “شارل ساندرز بيرس” حيث الاثنان سوسير و بيرس أول من أسس لهذا العلم في الألسنة الغربية.
إن اهم اشكالات النظرية التي يصطدم بها الدرس السيميائي هو تداخل مصطلحين هما:
أ-السيسيوطيقا Sémiotique
ب- السيميولوجيا Sémiologie اي أنه مهما حاولنا إيجاد تعريف لهذين المصطلحين لا نستطيع ان نستقر على تعريف دقيق ومحدد.
إن هذين المصطلحين مترادفان على المستوى المعجمي حيث استعملا في الاصل للدلالة على علم الطب وموضوعه دراسة العلامات الدالة على المرض ولا سيما الاغريقي حيث عدت السيميوطيقا جزءا لا يتجزأ من علم الطب، وقد وظف أفلاطون لفظ Sémiotique للدلالة على فن الاقناع.
يتفق جل الباحثين على ان المشروع السيميولوجي المعاصر بشر به “دي سوسير” في فرنسا في كتابة محاضرات في اللسانية العامة، وارتبط هذا العلم بالمنطق على يد الفيلسوف الامريكي “شارل ساندرسن بيرس” في أمريكا ، وعلى الرغم من ظهورهما في مرحلة زمنية متقاربة فإن بحث كل منهما استقل وانفصل عن الآخر.
2- التمييز بين السيسيوطيقا والسيميولوجيا:
يرى بير غيرو Pierre Guiraud أحد أساتذة جامعة نيس الفرنسية يعرف السيميوطيقا قائلا: ” السيميوطيقا علم يهتم بدراسة أنظمة العلامات ، اللغات، أنظمة الاشارات التعليمات…وهذا التحديد يجعل اللغة جزءا من السيميوطيقا.
غير أن “رولان بارت Roland Barthes” يفند هذا الطرح يرى أن السيميولوجيا لا يمكن ان يكون سوى نسخة من المعرفة اللسانية.
السيميولوجيا باعتبارها علما حديث النشأة اقتدت بالمبحث اللساني البنيوي.
3- آليات المنهج السيميائي:
1-يجب على الناقد السيميائي مرتجعة أساليب و طرق استخدامه للمنهج، وعليه ان يكون واعيا بالخلفيات الابستمولوجية و الايديولوجية للمنهج، وعليه أن يسعى الى مساءلة الوعي الفكري العربي بالحداثة او كذلك التعرف على دور المفكر او الناقد العربي في ابراز اسس الحداثة، وكيفية التعامل مع المستجدات الفكرية المعاصرة.
2-هدف الباحث السيميائي هو اجراء مقاربة معرفية من اجل بناء نمط ثقافي لقراءة النصوص، ومساءلة البنية العميقة للنص الادبي المراد استنطاقه سيميائيا وطرح أسئلة تتعلق بسياقاته لكشف المعاني والأبعاد داخل الخطاب الادبي.
4-مجالات التطبيق السيميولوجي:
1-الشعر (مولينو رومان جاكبسون، جوليا كرستينا، جيرار دولردال، ميكائيل، ريفاتير…)
2- الرواية والقصة (غريماس، كلود ريموند، بارت، كريستينا، تودوروف، جيرار جنيت، فيليب هامون…)
3- الاسطورة والخرافة (فلاديمير بروب…)
4- المسرح (هيلبو، كيرايلام)
5- السينما (كريستيان ميتز، يوري لوتمان)
6- الاشهار (رولان بارت، جورج بنينو، جان دوران…)
7- الازياء والاطعمة و الاشربة والموضة (رولان بارت…)
من خلال التعاريف التي قدمت للسيميائيات يتضح ان جميعها تتضمن مصطلح العلامة ويعني هذا ان السيميولوجيا هي علم العلامات (الايقونات، الرمز، الاشارة) ومن الصعب ايجاد تعريف دقيق للعلامة لاختلاف مدلولها من باحث لآخر.
المنهج التفكيكي ظهرت التفكيكية على يد جاك ديريدا كردّة فعل على المنهج البنيوي، وهيمنة السيميوطيقا على الحقل الثقافي الغربي، وتعدّ التفكيكية فلسفة التقويض الهادف والبناء الإيجابي، وقد جاءت لتعيد النظر في فلسفة الثوابت، كالعقل والدين واللغة والأصل والصّوت، ومن أبرز روادها من الغرب جاك ديريدا ومن العرب أدونيس.
ظهرت التفكيكية مع جاك ديريدا كرد فعل على البنيوية اللسانية، وهيمنة السيميوطيقا على الحقل الثقافي الغربي، ويعني هذا أن التفكيكية – حسب جاك ديريدا – فلسفة التقويض الهادف، والبناء الإيجابي، جاءت لتعيد النظر في فلسفات البنيات والثوابت، كالعقل، واللغة، والهوية، والأصل، والصوت، وغيرها من المفاهيم التي هيمنت على التفكير الفلسفي الغربي، أو جاءت لتنتقد المقولات المركزية التي ورثها الفكر الغربي من عهد أفلاطون إلى الستينيات من القرن العشرين، فترة ظهور التفكيكية مع جاك ديريدا[1].
هذا وإذا كانت التفكيكية قد اتخذت منحى فلسفيا في الغرب مع جاك ديريدا، ومع مجموعة من الفلاسفة الأوروبيين، فإن التفكيكية قد اتخذت منحى أدبيا في القراءة والتأويل في الثقافة الأنجلوسكسونية، حيث سخرت كل أدواتها من أجل تفكيك النقد الجديد (New Criticism).
وقد استعمل جاك دريدا (Jack derrida) مصطلح (التفكيك/déconstruction ) لأول مرة في كتابه (علم الكتابة/ الغراماتولوجيا/ De la grammatologie)، مـتأثرا في ذلك بمصطلح التفكيك لدى مارتن هايدجر (Heidegger) الذي شغله في كتابه( الكينونة والزمان)، وليس التفكيك عند جاك ديريدا بالمفهوم السلبي للكلمة، حيث ترد كلمة التفكيك في القواميس الفرنسية بمعنى الهدم والتخريب، لكن ترد في كتابات جاك ديريدا بالمعنى الإيجابي للكلمة بالمفهوم الهيدجري.أي: ترد كلمة التفكيك من أجل إعادة البناء والتركيب، وتصحيح المفاهيم، وتقويض المقولات المركزية، وتعرية الفلسفة الغربية التي مجدت لقرون طوال مفاهيم مركزية، كالعقل، والوعي، والبنية، والمركز، والنظام، والصوت، والانسجام… في حين، إن الواقع قائم على الاختلاف، والتلاشي، والتقويض، والتفكك، وتشعب المعاني، وتعدد المتناقضات، وكثرة الصراعات التراتبية والطبقية. ويعني هذا أن دريدا يعيد النظر، عبر مصطلح التفكيك، في مجموعة من المفاهيم التي قامت عليها الأنطولوجيا والميتافيزيقا الغربية تثويرا وتقويضا وتفجيرا. وهكذا، فمصطلح التفكيك ليس بمعنى الهدم السلبي، وليس بمعنى النفي أو الرفض أو التقويض والإنكار كما في فلسفة نيتشه، بل بمعنى إعادة البناء والتركيب، وتصحيح الأخطاء، وفضح الأوهام السائدة.
وهنا، لابد من الاشارة الى ان التفكيكية في البنيوية والسيميائية، ليس بمعنى التفكيك في فلسفة ديريدا، فلا يراد من التفكيك البنيوي والسيميائي سوى تشريح النص، وتحديد بنياته العميقة، واستخلاص القواعد المجردة والثنائيات المنطقية التي تتحكم في توليد النصوص اللامتناهية العدد بالاحتكام إلى العقل والمنطق واللغة. بيد أن تفكيك ديريدا هو تشريح للنصوص من أجل هدم المقولات الثابتة، وتقويض البنيات الثنائية، والتشكيك في فعاليتها الفلسفية والإجرائية. بمعنى أن التفكيك البنيوي والسيميائي تفكيك إيجابي ومنهجي ومجد في قراءة النصوص الفلسفية والأدبية، وطريقة عامة لفهم الخطاب وتفسيره علميا، بينما تفكيك ديريدا تفكيك سلبي يقوم على التضاد والاختلاف، وهدم تلك الثوابت البنيوية تشكيكا وفضحا وتعرية لأوهامها الإيديولوجية بالمفهوم السلبي والعدمي للتقويض والتفكيك. ومن ثم، ففلسفة جاك ديريدا في مجال التفكيك قريبة جدا، بشكل من الأشكال، من فلسفة النفي لدى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه(Friedrich Wilhelm Nietzsch).
ومن المعلوم أن التفكيكية تيار فلسفي وأدبي ظهر في ستينيات القرن العشرين، وهي منهجية لمقاربة الظواهر الفلسفية والتاريخية والأدبية تشريحا وتفكيكا وتقويضا. وقد ارتبطت التفكيكية بالفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا(Jacques Derrida)[2] الذي تأثر بهايدجر(Heidegger)، وهوسرل(Edmund Husserl )، ونيتشه(Neitsze). كما اقترنت التفكيكية بتشريح اللغة والفلسفة والنصوص الأدبية. بمعنى أن جاك ديريدا قد تسلح بالتفكيكية لتقويض المقولات المركزية للسانيين، وإعادة النظر في ثنائياتهم المزدوجة كالدال والمدلول، والصوت والكتابة، والسانكرونية والدياكرونية، واللغة والكلام، والتضمين والتعيين، والمحور الاستبدالي والمحور التركيبي…
هذا، ومن أهم الكتب التي ألفها جاك ديريدا لعرض نظريته التفكيكية، نذكر منها( علم الكتابة)، و( الكتابة والاختلاف)، و(الصوت والظاهر (الفينومين”، وقد صدرت هذه الكتب الثلاثة سنة 1967م، وقد أعقبها كتاب آخر ألف سنة 1969م، وهو(التشتيت) (La dissemination)، وعليه، فقد قوض جاك دريدا فلسفة الدال الصوتي الذي هيمن لسانيا على الثقافة الغربية لقرون عدة، منذ أفلاطون إلى فرديناند دي سوسير، ليعوض بالدال الكتابي، وآثاره الباقية، وأطراسه الناسخة. ويعني هذا كله أن فلسفة الدال التي هيمنت على ثقافة الغرب كانت بمثابة ميتافيزيقا مثالية ليس إلا. ومن هنا، يشكل الصوت الحضور والوجود والكينونة الأنطولوجية.أي: رمز تواجد الجسد، وحضور المتكلمين في الزمان والمكان، وعلامة على حضور الوظيفة التواصلية، والمقصدية التداولية، وتعبير عن الوعي والتفكير والروح. وبتعبير آخر، الصوت إشارة إلى حضور الذات، والغير، والمادة، والمعنى، والوعي. بينما الكتابة ليست أداة للتعبير عن الفكر، لكنها علامة العلامة، ويتموقع خارج الكلام الحي المرتبط بالمتكلم والسامع. علاوة على ذلك، فقد قوض جاك دريدا الصوت والدال الكلامي، وأعطى الأسبقية للكتابة على الصوت. إنها مقاربة منطقية جديدة للإضافة. ومن ثم، تحيل الكتابة على مؤسسة، ونظام مستمر الذي يعد شبكة من الاختلافات. وبهذا، يكون المدلول جماع مجموعة من الاختلافات، وهلم جرا. بمعنى ليس هناك مدلول واحد، بل مدلولات متعددة ومختلفة. أي: ليست هناك دلالة أحادية، بل هناك اختلافات الاختلافات، وآثار الكتابة، وبصماتها الباقية.
ولقد انتقد ديريدا فكرة الكتاب التي تحيلنا على فكرة الانسجام، وفكرة الكلية العضوية المحددة، وأحادية المدلول البنيوي. ويعني هذا أن ديريدا يرفض فكرة التأويليين كبول ريكور(Paul Ricoeur) مثلا، فيعتبر أن الكتاب الحقيقي هو الذي لايرتبط بمبدعه أو مؤلفه أو كاتبه، أو لايحمل هويته الفردية أو الإبداعية، بل الكتاب الحقيقي هو الذي تنعدم فيه الكلية، وتغيب فيه الدلالة، وتكثر فيه الاختلافات وعلامات العلامات.
فالتفكيكية إذن ظهرت في إطار خطاب ما بعد حداثي متشكك إزاء التاريخ الكوني، ونقصد بذلك التاريخ الذي اكتشف وجود شعوب بلا تاريخ، كما يبدي تشككاً إزاء الحكايات الغربية التي خدمت الإمبريالية، كما يميل إلى ثقافات الأطراف التي أخرسها المركز حين أخرس تواريخ تطرح رؤية للعالم لا تتطابق مع رؤية الغرب[3].
بناءً على ما تقدم، فقد يبدو للعالم بأسره أن التفكيك يحمل رسالة إنسانية من خلال النظرية النقدية التي تبناها، ودعا فيها إلى محاربة المفاهيم القمعية ، وكلنا يدرك أهمية نجاح الأطراف في حيازة خطاب ثقافي وطني على صعيد عالمي. من هنا يأتي الحديث عن التفكيكية باعتبارها مكتسباً نقدياً يعكس بشكل مباشر حق الإنسان في الاختلاف، وفي التعبير الحر عن هذا الاختلاف، في ما يمكن أن يسمى (تعددية التأويل) وفق بول ريكور[4].
إلا أن هذا الانفتاح اللانهائي المنكر للحد والحدود، والذي يجعل النص قابلاً للتأويل المستمر قد لا يجد له مناخاً مناسباً في المزاج العربي، فالبعض يتصدى للتفكيكية باعتبارها دعوة إلى السيولة والتسيب الفكري[5] يعكسان رغبة في نفي التعميمات والقوانين العامة وإثارة الشك في المعتقدات، وآنئذ يصبح القول بتعدد التفسيرات بصورة لا نهائية معضلة أمام بعض النصوص الثقافية العربية الدينية، ذلك أن التفكيكي” يحرق ويسلم لرياح النقد السوداء الكثير مما يعتبر عادة مقدساً، ويخلف وراءه قدراً كبيراً من كنوز الماضي، وقد لحق بهما سوء السمعة”[6].
من هنا نصل إلى القول: إن التفكيك يقتضي رغبة ملحة في التعددية الفكرية والمذهبية. فمن وجهة نظر معينة ضمن مزاج تاريخي وثقافي معين ينظر إلى التفكيك باعتباره رسالة إنسانية تحارب المفاهيم القمعية وتتصدى لها، ومن وجهة نظر أخرى فقد ينظر إليه باعتباره مدمراً للتقاليد وثورة عليها.
عموماً يأتي التفكيك – بما يحمله من مفهوم الاختلاف الجامع بين الاختلاف والإرجاء – أداة منهجية لتقويض التمركز المنطقي في الفلسفة الأوروبية منذ اليونانيين[7]، في وقت نجد فيه من يقول: “إن التاريخ العقلاني للحضارة الغربية يجعلها مهيأة لما يسميه بالغزو التقويضي”[8]. فللتفكيكية بعد سياسي في التاريخ الأوروبي الحديث يتماشى مع توجهات شمولية جديدة ضد الفاشية والنازية، وهي توجهات وجدت قبولاً لدى مناهضي المحرقة اليهودية المزعومة، الذين سعوا إلى تأصيل الاختلاف، أو جعله الأصل أو المتن، بدلاً من أن يكون الهامش[9].
ولعل تأملات سعد البازعي في الصلة اليهودية بالتقويضية، تدعم إلى حد كبير مقولة الخصوصية الحضارية للنظرية النقدية، وهي تأملات ذهبت به إلى القول إن التقويض هو محصلة نقدية فلسفية للتراث التفسيري للتوراة، أو هو رؤية دينية عقلانية أو لا دينية للعالم، تنتهي إلى ما يسميه دريدا (لعب التفسير) أو عدم ثباته في مرجعية الحقيقة أو المعنى المتفق عليه.
الأمر الذي يستند فيه البازعي إلى دراسات بعض المتخصصين في الدراسات العبرية، ومنهم سوزان هاندلمان التي تؤكد صلة الموروث العبري بالتقويض من خلال موت الإله، بمعنى أن الإله اليهودي منسحب وغائب عكس آلهة الإغريق الحاضرة، وبالتالي يتحول شعب الله إلى شعب الكتاب أثناء المدة الفاصلة بين النفي وعودة المسيح[10].
قد تشكل هذه المسألة عائقاً نفسياً بيننا وبين التفكيك[11]، لكن هذا لا يمنع من القول إن التفكيكية – في بعض نواحيها – مكتسب نقدي لا يلتقي مع غايات الغرب في جانبه القمعي الاستعماري، أو نظامه الذي تأسس على محو صورة الإنسان العادي، وعلى حساب الإنسان الفقير المهمش.
وقد يبدو مصطلح التفكيكية Deconstruction مضلّلاً في دلالته المباشرة، حتى إن دريدا نفسه شكا من ترجمته إلى اللغات الأخرى ، إلا أنه ثرّ في دلالته الفكرية ، لأنه يدل في مستواه الدلالي العميق على تفكيك الخطابات والنظم الفكرية، وإعادة قراءتها بحسب عناصرها ، والاستغراق فيها وصولاً إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها([12])، وتسعى التفكيكية إلى تعويم المدلول المقترن بنمط ما من القراءة واستحضار المغيب بحثاً عن تخصيب مستمر للمدلول على وفق تعدّد قراءات الدال ، مما يفضي إلى متوالية لا نهائية من الدلالات . ومثلما أكّد الناقد التفكيكي الأمريكي بول دي مان Paul de man على انتهاء عصر تسلط العمل الأدبي ، وبدْء عصر جديد هو عصر سلطة القارىء، فقد نظرت التفكيكية إلى الخطاب بوصفه نظاماً غير منجز إلا في مستواه الملفوظ ، أي في التمظهر الخطي الذي قوامه الدوال ، لتعني بذلك أن الخطاب يُنتج باستمرار ولا يتوقف بموت كاتبه . ولهذا دعت التفكيكية إلى الكتابة بدل الكلام ، لانطواء الأولى على صيرورة البقاء بغياب المنتج الأول ، في حين يتعذر ذلك بالنسبة للكلام ، إلا في نطاق محدود جداً. لقد خلص ديريدا بعد دراسته التفكيكية لمحاورة أفلاطـون فـي ” فيدروس” إلى أنه إذا كان الكلام إطاراً للحضور والهوية والوحدة والبداهة ، فإن الكتابة إطار للغياب والاختلاف والتعدد والتباين([13]).
أبرز الدراسات النقدية الحديثة تعدّدت الدراسات النقدية العربية الحديثة على اختلاف مدارس النقد الأدبي التي ظهرت لدى الغرب ومناهجها، وقد اشتملت في معظمها على الجانبَيْن التطبيقي والنظري، بينما اكتفى بعضها بالوقوف على جانبها النظري الذي أشير إليه خلال تعريف النقد الأدبي الحديث، ومن أبرز هذه الدراسات ما يأتي:
صيدلية أفلاطون مؤلفه جاك ديريدا، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية، وقد احتل هذا الكتاب مكانًا أساسيًا في العمل الفكري للفيلسوف الجزائري الأصل جاك ديريدا، الذي عمل من خلاله على تفكيك الفكر الغربي منذ الميتافيزيقا اليونانية التي تشكل لهذا الفكر أصله وأساسه.
الرمز والرمزية في الشعر المعاصر مؤلفه محمد فتوح أحمد، وقد جعله في بابين كبيرين تناول في أولهما الرمزية باعتبارها مذهبًا نقديًا أدبيًا، وتناول في الباب الثاني المنهج الرمزي كما تعكسها نماذج الشعر العربي المعاصر، ويسبق هذَيْن البابَيْن تمهيدٌ عن الرمزية وموقفه من المناهج النقدية الأخرى.
مناهج النقد المعاصر لمؤلّفِهِ صلاح فضل، وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي تراعي الشرح وتبسيط التفاصيل كما تجري على الطريقة الشفاهية، وقد تناول فيها المؤلف النقد الأدبي بأسلوب عام غير موجه للمختصين وقد عكف من خلال هذا الكتاب على تناول المصطلحات النقدية الأساسية المتداولة في عالم النقد الحداثي.
- الموضوع 2
- الموضوع 3
- الموضوع 4
- الموضوع 5